بالضبط، حجة من استمرار إقامة الرسول بين قومه فترة واسعة وكافية، ليدرك الناس جميعاً ميزاته واهتماماته، وعجزه الشخصي عن القيام بوضع آيات القرآن.
فماذا كانت أعماله في تلك المرحلة الانتقالية؟.
هناك حدث محدد وأكيد على الأقل. ففي نحو الثلاثين من عمره شارك في إعادة بناء الكعبة. ومن المعلوم من ناحية أخرى أنه تحمل بكفاءة ونشاط أعباءه العائلية؛ إذ رزق أكثر أولاده قبل قيامه بالرسالة.
وإذا كنا لا نملك تفاصيل أكبر حول أعماله اليومية قبل البعثة، فمرد ذلك بدون شك، إلى أنه فيما عدا المسلمة البارزة لعظيم أخلاقه، لا نجد في تلك الفترة من الزمن أمراً منفصلاً عن مألوف وسطه يمكن التحدث عنه.
فسكوت سائر رجال السيرة، عن التفصيلات الإضافية في هذا الخصوص، نقطة نسجلها كما لاحظت بحق، لصالح التراث الإسلامي الذي تحلى دائماً بأمانة تاريخية متشددة إلى أقصى حد، حين عزف عن كل توسيع أو تقليص، للمعطيات الثابتة التي يجدها في متناوله، سواء كانت هذه المعطيات لصالح قضيته أو في غير صالحها.
بعد هذا كله، أعود لأهنئك مرة أخرى على واسع الجهد، الذي به نجحت في إلقاء ضوء جميل حول المسألة الدينية في عمومها، وحول الفكر القرآني خاصة، كيما تسهم في دعم الأساس العقلاني للإيمان.
فعساك تجد أعظم ثوابك في ذلك النجاح المعنوي الذي يستحقه كتابك. وعسى نداؤك المنطقي والشاعري الذي أطلقته ليلامس أصحاب العقول النيرة، يتسرب إلى عميق نفوسهم فيبعث فيهم من جديد حياة القلب والعقل معاً.
باريس ١٥ أيلول (سبتمبر) ١٩٤٦م
محمد عبد الله دراز
أستاذ في الأزهر الشريف


الصفحة التالية
Icon