ومن الطبيعي أن نبحث هنا في وضع فاصل دقيق واضح بين هذين الأساسين في ضميره - ﷺ -، كيما نزيد في إيضاح الظاهرة القرآنية.
ويظهر هذا التمييز أيضاً لدى الأنبياء الآخرين كما استطعنا أن ندرك هذا في بحث حالة (أرمياء).
فعندما رأى هذا النبي ذات يوم (حنانيا المتنبئ) يتخذ موقف المعارض لدعوته، وهو يسوق الطمأنينة إلى قلوب بني إسرائيل فيما كتب الله عليهم، فوجئ به وهو يمسك بنيره الذي يطوق به عنقه، فيحطمه صارخاً: "هاك ما قال الله: سأحطم هكذا طوق ملك بابل".
لقد كانت هذه الكلمة- بصفة عامة- التكذيب الصريح القاطع لدعوة أرمياء كلها، ولكنه أجاب عن طواعية: "آمين، حقق الله ما تقول".
ويفسر الأستاذ (أندريه لودز M.A.Lods) - الذي يورد هذه الفقرة من كتاب أرمياء- هذا الموقف الغريب في قوله: لقد كان يظن أن الله قد رجع في قضائه (١).
لقد كان هذا بلا شك هو التفسير الوحيد المعقول لرفع التعارض الذي قد يبدو في موقف النبي، فإن (أرمياء) قد أبلغ نذره التشاؤمية باسم الرب، وهو أيضا باسم الرب قد آمن بضرورة التزام الصمت لحظة تنبؤ (حنانيا)، لكن هذا الصمت لم يكن بناء على آية موحاة إلى (أرمياء)، بل بناء على اجتهاده الشخصي، فلقد قدر أن من المحتمل أن يكون (حنانيا) قد تلقى وحياً من الله.
ومع ذلك فإن الوحي يأتيه على الفور ليصحح هذا التقدير، فإذا بالنبي يعاود في سرعة نهج دعوته المألوف.

(١) أندريه لودز (أنبياء بني إسرائيل) ( Les prophètes d'Israél) [ ص: ١٨٨]


الصفحة التالية
Icon