لا يتدارسه قادة الجيوش الإسلامية وجندها حتى هذا اليوم، بقيت أيضاً معارك الثقافة على تطاولها، سراً خافياً لا يتدارسه قادة الثقافة الإسلامية وجندها؛ بل أكبر من ذلك: فقد أصبح أكثر قادة الثقافة في العالم الإسلامي وأصبح جنودها أيضاً، تبعاً يأتمرون بأمر القادة من أعدائهم، عارفين أو جاهلين أنهم هم أنفسهم قد انقلبوا عدواً للعقل الإسلامي الذي ينتسبون إليه، بل الذي يدافعون عنه أحياناً دفاع غيرة وإخلاص.
لم يكن غرض العدو أن يقارع ثقافة بثقافة، أو أن ينازل ضلالاً بهدى، أو أن يصارع باطلاً بحق، أو أن يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة؛ بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة في العالم الإسلامي، جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولاً لا تدرك إلا ما يريد لها هو أن تعرف، ف كانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عرفت إلى هذا اليوم، كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلاً بمثل. وقد كان ما أراد الله أن يكون، وظفر العدو فينا بما كان يبغي ويريد.
وقد فصل مالك في (مدخل الدراسة) محنة (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، على يد أمضى أسلحة العدو في تهديم بعض جوانب الثقافة، بل أهم جوانبها، وهو سلاح (الاستشراق)، سلاح لم يدرسه المسلمون بعد، ولم يتتبعوا تاريخه، ولم يكشفوا عن مكايده وأضاليله، ولم يقفوا على الخفي من أسرار مكره، ولم يستقصوا أثره في نواحي حياتهم الثقافية؛ بل في أكثر نواحي حياتهم الإنسانية، كيف؟ بل كان الأمر عكس ما كان ينبغي أن يكون، فهم يتدارسون ما يلقيه إليهم على أنه علم يتزوده المتعلم، وثقافة تتشربها النفوس، ونظر تقتفيه العقول، حتى كان كما قال مالك: ((إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين، قد بلغت درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها)) وتفصيل أثر هذا الإشعاع في تاريخنا الحديث، وفي سياستنا وفي عقائدنا، وفي كتبنا وفي