في أنفسهم من مثل الذي وجد الوليد، ومن مثل الذي آمن عليه مَن آمن مِن قومه العرب، صب الله عليهم من الوحي ما هالهم وأفزعهم؛ كانوا يتحيرون في هذا الذي يتلى عليهم، وظل رسول الله - ﷺ - بمكة ثلاثة عشر عاماً والمسلمون قليل مستضعفون في أرض مكة، وظل الوحي يتتابع وهو يتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات. فلما انقطعت قواهم، قطع الله عليهم وعلى الثقلين جميعاً منافذ اللدد والعناد، فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء ١٧/ ٨٨]. وكذلك كان!
فكان هذا البلاغ القاطع الذي لا معقب له، هو الغاية التي انتهى إليها أمر هذا القرآن، وأمر النزاع فيه، لا بين رسول الله وبين قومه من العرب فحسب، بل بينه وبين البشر جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا.. بل بينه وبين الإنس والجن مجتمعين متظاهرين. وهذا البلاغ الحق الذي لا معقب له من بين يديه ولا من خلفه، هو الذي اصطلحنا عليه فيما بعد، وسميناه (إعجاز القرآن).
وهذا الذي اقتصصته لك، تاريخ مختصر أشد الاختصار، ولكنه مجزئ في الدلالة على تحديد معنى (إعجاز القرآن) بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ على إطلاقه، ومجزئ في الدلالة على هذا (الإعجاز). من أي وجوه الإعجاز كان إعجازاً، وإنه ليكشف عن أمور لا غنى لدارس عن معرفتها:
الأول: أن قليل القرآن وكثيره في شأن (الإعجاز) سواء.
الثاني: أن الإعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم وبيان في لغة العرب، ثم في سائر لغات البشر، ثم بيان الثقلين جميعاً، إنسهم وجنهم متظاهرين.


الصفحة التالية
Icon