يجوروا عن الإنصاف في الحكم عليه. فقد قرَّعهم وعيرهم وسفَّه أحلامهم وأديانهم، حتى استخرج أقصى الضرورة في عداوتهم له. وظل مع ذلك يتحداهم، فنهتهم أمانتهم على البيان عن معارضته ومناقضته وكان أبلغ ما قالوه: ﴿قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ [الأنفال ٣١/ ٨]، ولكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئا؛ هذه واحدة. وأخرى: أنه لم ينصب لهم حكماً، بل خلّى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له، ثقة بإنصافهم في الحكم على البيان، فهذه التخلية مرتبة من الإنصاف لا تدانيها مرتبة.
رابعها: أن الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأوتوا هذا القدر من تذوق البيان، ومن العلم بأسراره، ومن الأمانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب العقل أن يكونوا قد بلغوا في الإعراب عن أنفسهم بألسنتهم المبينة عنهم، مبلغاً لا يدانى.
وهذه الصفات تفضي بنا إلى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن كان بقي من كلامهم شيء، فالنظر المجرد أيضاً، يوجب أمرين في نعت ما خلفوه:
الأول: أن يكون ما بقي من كلامهم، شاهداً على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء، حتى لا تعجزها الإبانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.
الثاني: أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها، بل على سجاحتها أيضاً، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم.
فهل بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهداً على هذا ودليلاً. نعم، بقي (الشعر الجاهلي)!


الصفحة التالية
Icon