فإذا اتخذنا لهذه الدراسة أهبتها، وأعددنا لها من الصبر والجد والحذر ما ينبغي لها، واللسان لساننا، والقوم أسلافنا، والسلائق مغروزة في أعماق طباعنا، ثم أصّلنا للدراسة مناهج تعين عليها، واستحدثنا لها أسلوباً يلائمها، فعندئذ يدنو الذي نراه بعيداً، ويتجلى لنا ما كان غامضاً، ويكشف لنا (الشعر الجاهلي) عن أروع روائعه، ويبذل لنا ما استكن فيه واستتر من أصول (البيان) الإنساني، بغير تخصيص للغة العرب، فنراها ماثلة على أدق وجوهه وأغمضها، وفي أتم صوره وأكملها.
وهذا الذي أفضت فيه من ذكر الشعر الجاهلي، وما وجدته فيه في نفسي باب عظيم، أسأل الله أن يعينني بحوله وقوته، حتى أكشف عنه وأجليه، وحتى أؤيده بكل برهان قاطع على تميزه عن كل شعر العرب بعده، وبذلك يكون نفسه دليلاً حاسماً على صحة روايته، وعلى أن الرواة لم ينحلوه الشعراء افتراء عليهم.
وغير خافٍ أن الذي وصلنا إلى هذا اليوم من شعر الجاهلية، قليل مما روته الرواة منه، والرواة القدماء أنفسهم لم يصلهم من شعرها إلا الذي قال أبو عمرو بن العلاء، في أوائل القرن الثاني من الهجرة: ((ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير)). ومع ذلك فهذا القليل مجزئ إن شاء الله في الدلالة على ما نريد من الإبانة عن تميز شعرهم عن شعر من جاء بعدهم، وفيه جمّ واف من خصائص البيان التي امتاز بها أهل الجاهلية. ولكن كيف بقي هذا الشعر إلى يومنا هذا؟.. بقي مادة للغة العرب، وشاهداً على حرف من العربية، وعلى باب من النحو، وعلى نكتة في البلاغة. وبقي ذخراً للرواة، وركازاً يستمد منه شعراء الإسلام، ومنبعاً لتاريخ العرب في الجاهلية، بل بقي كنزاً لعلوم العرب جميعاً، لكل علم منه نصيب على قدره. ولكن غاب عنا أعظم ما بقي له هذا الشعر: أن يكون مادة لدراسة البيان المفطور في طبائع البشر، مقارناً بهذا البيان، الذي فاق طاقة بلغاء الجاهلية،


الصفحة التالية
Icon