دعاهم إليه، فما كذبوه وأنكروا نبوته، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الذي يسمعون في نظمه وبيانه، وألح عليهم يتحداهم في آيات منه كثيرة، ولكنهم وجدوا في أنفسهم مفارقته لبيان البشر، وجداناً ألجأهم إلى ترك المعارضة إنصافاً للبيان أن يُجار على حقه، وتنزيهاً له أن يزري به جورهم عن هذا الحق.
وعلى الذي تلقوه به من اللدد في الخصومة والعناد لم يلبث أن استجاب له النفر بعد النفر إقراراً وتسليماً بأن الكتاب كلام الله، وأن الرجل نبي الله، ثم تتابع إيمان المؤمنين منهم، حتى لم تبق دار من دور أهل الجاهلية إلا دخلها الإسلام أو عمَّها، وألقوا إليه المقادة على أنه لا يتم إيمان أحدهم حتى يكون هذا الرجل، بأبي هو وأمي؛ أحب إليه من أهله وولده. وهذه أعمالهم تصدق ذلك كله.
فأقبل كل بليغ منهم مبين، وكل متذوق للبيان ناقد يتحفظ ما نزل من القرآن ويتلوه ويتعبد به، ويتتبع تنزيله تتبع الحريص المتلهف، ويصيخ له وينصت حين يتلى في الصلوات وعلى المنابر يوماً بعد يوم؛ وشهراً بعد شهر؛ وعاماً بعد عام، وكلهم مخبت خاشع لذكر الله وما نزل من الحق، يصدق إخباتهم وخشوعهم ما قال الله سبحانه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [سورة الزمر ٢٣/ ٣٩]. ثم صار للقرآن في جزيرة العرب دوي كدوي النحل، وخشعت أسماع للجاهلية كانت بالأمس، للذي يتلى عليهم من كلام الله الذي خلقهم، وجعل لهم المسلمع والأبصار والأفئدة، وأخبتت ألسنة للجاهلية كانت بالأمس، إقراراً لهذا القرآن بالعبودية، كما أقروا هم للذي اصطفى لغتهم لكلامه سبحانه بالعبودية، وماجت بهم جزيرة العرب مهللين مكبرين مسبحين، كلما علوا شرفاً أو هبطوا وادياً، وأقاموا تالين للقرآن بالغدو والآصال، وبالليل والأسحار وانطلقوا يتتبعون سنن نبيهم ويتلقفونها، وخلعوا عن قلوبهم ونفوسم وعقولهم وألسنتهم


الصفحة التالية
Icon