وهكذا تأتي رسالة الرسول الأمين، ولكنها تتسم بصفة خاصة تميزها عما سبقها من الرسالات، إذ أنها الحلقة الأخيرة في سلسلة البعث. ويأتي محمد (خاتم الأنبياء) كما ينوه بذلك القرآن، ويشهد به مرور الزمن منذ أربعة عشر قرناً.
وما كانت هذه الميزة التاريخية في الدين الجديد، دون أن يكون أثرها في كل خصائصه، وفي نوع إعجازه على وجه الخصوص، فإن حاجة التبليغ ستبقى مستمرة فيه، سواء من الناحية النفسية، لأن كل مسلم- بعكس اليهودي- يحمل في نفسه (مركب التبليغ)، أم من الناحية التاريخية لأن الدين الجديد- الإسلام- سيكون دين آخر الزمن، أي الدين الذي لا يعقبه دين سماوي آخر، بل لا يأتي دين بعده بصورة مطلقة كما تشهد بذلك القرون، حتى إن حاجة الإسلام إلى وسائل تبليغه ستبقى ملازمة له، من جيل إلى جيل، ومن جنس إلى جنس، لا يلغيها شيء في التاريخ، وهذا يعني أن هذه الوسائل يجب ألا تكون- مثل الأديان الأخرى- مجرد توابع يتركها الدين في الطريق عبر التاريخ بعد مرحلة التبليغ، مثل اليد عند موسى أو عصاه التي لم يبق لها أثر حتى في متاحف العالم، كما بقيت عصا (توت عنخ آمون) المذهبية.
وعليه يجب أن يكون (إعجاز) القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والأجيال، وهي صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر رضي الله تعالى عنه أو الوليد، أو يدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده. ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وإمكانيات عالم اللغة في العصر العباسي، وعلى الرغم من هذا فإن القرآن لم يفقد بذلك جانب (الإعجاز) لأنه ليس من توابعه بل من جوهره؛ وإنما أصبح المسلم مضطراً إلى أن يتناوله في صورة أخرى وبوسائل أخرى، فهو يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي، أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرقاً للتحليل الباطن، كما حاولنا أن نطبقها في هذا الكتاب.


الصفحة التالية
Icon