إذ هو يحدد بصفة نهائية سلوكه في المستقبل، وهذا السلوك يعد قطعاً جوهر حياة النبي. ولنا أن نعد هذا العنصر عاملاً دائماً مطلقاً عند النبي، فإن (أرمياء) كان يستطيع أن يعطينا سمات أخرى لذاته متمثلة في أحوال أخرى للضمير، ربما لا نصادف فيها عوامل (الحساسية) و (الميل إلى الامتناع)، وإنما نلقى (النار المضطرمة) نفسها مسهمة في عوامل نفسية جديدة، تحذف من السلوك الأساسي للنبي في النهاية.
ولنأخذ على ذلك مثلاً: حينما جاء (حنانيا) (ليحطم الطوق الخشبي الذي كان في عنق النبي) قائلا: (هاك ما قال الله، وسأحطم هكذا نير ملك بابل).... لقد أجابه (أرمياء) في براءة وحسن طوية مدفوعأ بمحض اختياره: (آمين.... حقق الله ما تقول).
ثم لم يروه عدة أيام ينشر دعوته، ومع ذلك فإنه لم يلبث أن ظهر في الأماكن العامة وليس معه هذه المرة طوق خشب، بل طوق من حديد، إمارة على تصميمه القاطع النهائي على الاستمرار في دعوته العابسة.
وأياً ما كانت الأسباب النفسية التي حتمت هذا التوقف المؤقت لنشاط النبي، فإنه مما له دلالته الكبرى أنه عاد أخيراً إلى رسالته.
فالعنصر الدائم الذي وصفناه ينفي أخيراً ودائماً جميع العوامل النفسية عند النبي، ذلك العنصر الذي ينظم له نهائياً سلوكه في المستقبل. فهذا العامل له إذن بعض القهر بالنسبة لذات (أرمياء)، إذ هو ينتصر تماماً على مقاومته، فيذل حساسيته، وينفي ثقته الشخصية في تنبؤ (حنانيا)، وإن كانت تلك إلى أجل. وهذا العامل هو الذي قمع ألمه عندما وضعه كاهن المعبد في (الفلقة) بتهمة التحريف، قمع ألمه قمعاً محا لديه الغريزة الأولية للمحافظة على النفس، عندما كبدته تنبؤاته المشؤومة أن يلقى به ذات يوم في (الجب) حتى كاد يهلك.


الصفحة التالية
Icon