إذا عرفنا ترتيب الآيات التي نزلت في شأن تحريم الخمر، وقد ذكرنا ذلك آنفا، ومثل ما إذا عرفنا أن الآيات الداعية إلى أصول العقائد نزلت أولا، وأن الآيات التي نزلت في التشريعات التفصيلية، والأحكام العملية نزلت بعدها، أدركنا أسرار الله في التربية والتشريع، فما لم تعرف الأصول، وتطمئن إليها القلوب، لا يسهل الأخذ بالفروع.
الأولية والآخرية إما مطلقة وإما مقيدة:
ثم إن أولية النزول وآخريته تارة تكون على الإطلاق أي بالنسبة للقرآن كله، وتارة تكون مقيدة؛ إما بالنسبة لموضوع معين، وذلك مثل أول ما نزل في الجهاد، وآخر ما نزل فيه، وإما بالنسبة لمكان خاص مثل أول ما نزل بمكة، وآخر ما نزل بها، وأول ما نزل بالمدينة وآخر ما نزل بها، وإما بالنسبة لسورة ما؛ مثل أول ما نزل من سورة كذا وآخر ما نزل منها.
أما الأولية والآخرية المطلقتان، فسأتناولهما بالتفصيل، وأما المقيدتان فسأكتفي بضرب بعض الأمثلة؛ لأن استيعابها يحتاج إلى مؤلف خاص.
ولنبدأ بأول ما نزل وآخر ما نزل على الإطلاق.
٢ - أول ما نزل من القرآن
اختلف العلماء في هذا على أقوال أربعة:
القول الأول:
إن أول ما نزل هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) [العلق ١ - ٥]، ويدل لذلك ما يأتي:
أ- روى البخاري ومسلم- واللفظ للبخاري- بسندهما عن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو