يعرفون أبناءهم بل أشد، ثم جاء بعده الأمر بأداء الأمانات عامة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) [النساء: ٥٨].
فكانت المناسبة رائعة حقّا، والاتصال وثيقا، والانتقال في غاية الحسن والجمال، إذ أن آية الأمانة عامة في كل أمانة، وما تقدم كان في أمانة خاصة، والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول، وهذه المناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام دخولا أوليّا، فهو كسبب في كونه قطعي الدخول في اللفظ النازل بسببه ولا يجوز خروجه بالإجماع.
وقد اعتبر الإمام ابن السبكي هذا النوع مرتبة متوسطة دون السبب وفوق التجرد؛ أما كونه دون السبب فلأن الأولى ليست سببا في الثانية اصطلاحا وأما كونه فوق التجرد فلهذه المناسبة القوية بين الخاص والعام ودخول الأول في الثاني.
ولا يرد على ما ذكرناه تأخر الآية الثانية عن الأولى بنحو ست سنين؛ لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة؛ لأن المقصود منها وضع الآية في الموضع الذي يناسبها، والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي ﷺ بوضعها في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها، وهذا الكلام الذي قاله ابن السبكي ونقله عنه السيوطي في الإتقان من الحسن بمكان، وقد نبه إلى هذه المناسبة البديعة بين الآيات الإمام القرطبي في تفسيره (١) حيث قال: وجه النظم بما تقدم أنه- تعالى- أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد ﷺ وقولهم إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات.
...