لم ينبسوا ببنت شفة، ورضوا لأنفسهم السكوت وباءوا بالعجز، بل عجزهم أشد من عجز أهل مكة، ثم أي دارس للأدب تسول له نفسه أن يفضل أهل المدينة على أهل مكة في البلاغة والفصاحة والتصرف في فنون القول والقدرة على إنشاء العبارات!
ومعروف أن قريشا كانت أوسط العرب دارا وأبرعهم في الخطابة والشعر والتفنن في الأساليب، وإليها كان يحتكم العرب في شعرهم ونثرهم، وقد ساعدها على هذا اجتماع العرب في مواسم الحج، والمجامع الأدبية الحافلة، والأسواق السنوية التي كانت تعقد بالقرب من دارهم في عكاظ ومجنة وذي المجاز، فكانوا يتخيرون من لغتهم ما خف على اللسان، وحسن في الأسماع وجاد من الأساليب.
الشبهة الثانية
قال: إن القسم المكي يمتاز بميزات الأوساط المنحطة أما القسم الثاني المدني فتلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة، فالقسم المكي ينفرد بالعنف والشدة والقسوة والسباب والوعيد والتهديد مثل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) السورة، وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أما القسم المدني: فهادئ لين وديع مسالم يقابل السوء بالحسنى.
وللرد على ذلك نقول:
١ - إن القسم المكي فيه ثقافة واستنارة أيضا، وفيه سمو ورفعة ووقار وجلال ولين، وهو إن قسا فعلى الكافرين والمفسدين، وإذا لان فللأخيار والصالحين وهو في كلا الحالين يدعو لخير الإنسانية جمعاء وعباراته مهذبة غاية التهذيب، وكيف لا يكون فيه ثقافة واستنارة وقد تحدث أكثر ما تحدث عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعن الفضائل والآداب الإنسانية السامية، وبحسبك أن تقرأ أي سورة من السور المكية لتعلم ذلك علم اليقين، ثم ماذا يريد هذا الطاعن بالسباب إن أراد البذاءة والفحش