كلامهم، وبها يتخاطبون، وقد تحداهم المرة تلو المرة أن يأتوا بشيء منه فعجزوا وما استطاعوا، فكان هذا دليلا ساطعا على أنه ليس من عند بشر وإنما هو من عند خالق القوى والقدر، وإما تنبيه السامع إلى ما يتلى بعدها لاستقلالها بنوع من الإغراب فهي كأداة التنبيه لما يتلى بعدها فيفرغ السامع لذلك قلبه وسمعه فتقوم عليه الحجة باستماع القرآن، وقد يقع الكلام من نفسه موقع التأثير فيؤدي به إلى الإيمان، فهي إذا ليست غير مفهومة المعنى، والخطاب بها ليس من قبيل الخطاب بما لا معنى له.
ولو سلمنا أنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه فلا تنهض للطعن في كون القرآن هدى وبيانا، لأنها ألفاظ قليلة جدّا بالنسبة إلى الألوف المؤلفة من كلمات القرآن التي تدل على معنى معروف عند المخاطبين (١)، وهي على هذا الوجه جاءت لحكمة سامية، وهو الابتلاء والاختبار، ليظهر قويّ الإيمان من ضعيفه وراسخ العلم من غيره فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) [آل عمران: ٧]، فلم يكن وجودها في القرآن عبثا، وحاشا لله أن يكون في القرآن شيء منه.
٢ - دعوى أنها ألفاظ قصد بها التعمية، أو التهويل، أو أنها رموز لمصاحف ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن دعوى لم يقم عليها أثارة من علم، وإنما هو أمر فرضي وتشكيك بين أمرين ثبوت أحدهما ينفي الآخر فكونها قصد بها التهويل إلخ يقتضي أنها نطق بها الرسول وكانت في عهده، وكونها رموز إلخ يقتضي أن لا تكون نطق بها الرسول ولا كانت في عهده، والأمور الفرضية والتشكيكات لا تليق بالبحث النزيه القويم في كتاب كريم، تواترت الدلائل على تواتره في جملته وتفصيله وسلامته من التبديل والتحريف.
ولو فتحنا باب الفروض والتخمينات التي لا سند لها من عقل ولا نقل لم

(١) مجموع هذه الفواتح تسع وعشرون كلمة ومجموع كلمات القرآن سبع وسبعون ألف كلمة وتسعمائة وأربع وثلاثون كلمة.


الصفحة التالية
Icon