الرسول. يدل على هاتين الحالين: ما رواه البخاري، في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها-: أن الحارث بن هشام- رضي الله تعالى عنه- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم (١) عني، وقد وعيت منه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة- رضي الله عنها-:
«ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، وأن جبينه ليتفصّد عرقا» وإنما اكتفى النبي في الجواب بهاتين الكيفيتين دون غيرهما من الكيفيات والأنواع؛ لأن الظاهر أن السؤال كان على الوحي الذي يأتي عن طريق جبريل.
والقرآن الكريم لم ينزل منه شيء إلا عن طريق جبريل- عليه السلام- ولم يأت شيء منه عن تكليم أو إلهام (٢) أو منام، بل كله أوحي به في اليقظة وحيا جليّا، ولا يخالف هذا ما ورد في صحيح مسلم (٣) عن أنس- رضي الله عنه- قال: «بينا رسول الله ﷺ بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة (٤).. ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله فقال: إنه نزل عليّ آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣) [سورة الكوثر].
إذ ليس المقصود ب «الإغفاءة» في الحديث: النوم، وإنما المقصود:
الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، وهي الغيبوبة عما حوله.
(١) الفصم: القطع من غير إبانة، والتعبير به في هذا المقام صادف محز البلاغة؛ لأنه ينقطع عنه ﷺ ليعود إليه، أما القصم- بالقاف- فهو القطع مع الإبانة.
(٢) سنفصل الكلام عن الوحي وكيفياته فيما يأتي.
(٣) صحيح مسلم- كتاب الصلاة- باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة سوى براءة.
(٤) يقال: أغفى إغفاءة، أي (نام نومة خفيفة) والمراد ما كان يعتريه عند الوحي من الغيبوبة عمن حوله.