وهذا المعنى الذي أراده الحق سبحانه- فيما أراده من حكم لنزول القرآن منجما ومفرقا قطعا قطعا- هو غاية ما وصل إليه أهل التربية في حفظ النصوص الطويلة، وتسهيل فهمها.
وهذا المعنى التربوي ما كان يجول بخاطر بشر في هذا العصر، وفي هذه البيئة البدوية، مما يدل على أن منزّل القرآن على هذه الطريقة البديعة هو الله.. العالم بالطبائع البشرية، والنفوس وأسرارها.
الحكمة الثانية:
التدرج في تربية الأمة دينيّا وخلقيّا واجتماعيّا، وعقيدة وعلما وعملا، وهذه الحكمة هي التي أشار إليها الحق- تبارك وتعالى- بقوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) [سورة الإسراء: ١٠٦]، ويندرج تحت هذه الحكمة ما يأتي:
التدرج في انتزاع العقائد الفاسدة، والعادات الضارة والمنكرات الماحقة، فقد بعث النبي ﷺ إلى قوم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله غيره، ويسفكون الدماء، ويشربون الخمر، ويزنون، ويغتصبون الأموال، ويئدون البنات خشية العار، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويظلمون النساء، ويتزوجون نساء الآباء، ويجمعون بين الأختين، كما كانوا يتظالمون، ويقع بينهم الحروب لأوهى الأسباب كناقة رعت من حمى، أو سبق فرس، أو نحو ذلك. وكانت الحروب تدوم بينهم عشرات الأعوام
حتى تأكل الأخضر واليابس، وكان التكافل والتعاون بينهم يكاد يكون معدوما فلا تراحم بين الأغنياء والفقراء، ولا بين السادة والعبيد ولا بين الأقوياء والضعفاء.
ومعلوم: أن النفس يشق عليها ترك ما تعودته مرة واحدة «وشديد عادة منتزعة» والإقلاع عما اعتقدته بمجرد النهي عنه؛ لأن للعقائد- حتى ولو كانت باطلة- وللعادات- ولو كانت مستهجنة- سلطانا على النفوس، والناس أسراء ما ألفوا، ونشئوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة،