موقع من سرّ بلاغي، وإعجاز بياني، حتى في الكلمة الواحدة تختلف بها العبارة من موقع إلى موقع، ونشأ عن هذا الغرض الأخير فنّ جليل دقيق هو «متشابه القرآن اللفظي»، صنّف فيه العلماء عدة كتب، أذكر منها كتاب «درة التنزيل وغرة التأويل» للراغب الأصفهاني.
ومن أمثلة ذلك هذا التحليل نسوقه من الكتاب:
قال تعالى في سورة الأنعام (١): وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.
وقال في سورة الإسراء (٢): وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ.
فالسؤال هنا: لم قدم في الأول: ضمير المخاطب نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وفي الثاني ضمير الغائب: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ....
والجواب عن هذا من أكثر من وجه نذكر منها ما يختص بالمعنى:
إن الآية الأولى تحرّم قتل الأولاد الذي يدفع إليه الفقر النازل فعلا بالآباء كما قال مِنْ إِمْلاقٍ. فناسب لذلك تقديم ذكر الآباء لأنهم هم الذين يعانون الفقر فعلا، وهو يدفع بعضهم للتخلص من أعز شيء عليه، فكان الملائم للمقام هنا تقديم ذكر الآباء.
أما الآية الثانية: فتحرم قتل الأولاد الذي يدفع إليه خوف الفقر في المستقبل خَشْيَةَ إِمْلاقٍ لتضاعف مسئوليات النفقة بسبب الأولاد. فناسب لذلك تقديم ذكر الأبناء نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ لضمان مستقبلهم من الله وإزاحة هذا التخوف والوسواس الذي تحرك في القلب بسببهم» (٣).
(٢) الآية ٣٢.
(٣) درة التنزيل وغرة التأويل ص ٣٣٩. وقد طبع هذا الكتاب منسوبا للخطيب الاسكافي، وذلك خطأ، إنما هو للراغب، كما وجدناه في مخطوطاته.