غيرهم إذ ذاك، فكان كما قال الإمام مكّيّ بن أبي طالب (١): «أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة فإنه ينفر من قبوله كثير من الناس، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي».
لهذا سلك القرآن الكريم معهم مسلك التربية الحكيمة، وهو مسلك التدرج في التشريع من حكم إلى حكم. والتأنّي في نقلهم من حال إلى حال، ومن خلق إلى خلق، وهكذا بلغ الغاية في تخليهم عن عقائدهم الباطلة، وعاداتهم المسترذلة، وسما بهم إلى عقائد القرآن وأخلاقه وعباداته وأحكامه ونظامه الشامل.
ويصور لنا هذه الحكمة التربوية ما أخرجه البخاري (٢) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا».
وهكذا كانت تنزل الفرائض: تنزل الفريضة حتى إذا تمكنت في النفوس نزلت الأخرى، وكذلك المحرمات، بل إن التدرج في أحيان كثيرة كان يقع في الحكم الواحد، مثل فرائض النفقات، والجهاد، وحقوق المرأة، والميراث، وتحريم الخمر، حتى أثمرت تلك التربية الربانية خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وحتى كان في وقائع امتثالها ما تباهي أرقى الدول في هذا العصر في محاولتها إصلاح مجتمعها، وما قصة تحريم الخمر المشهورة ومحاولة بعض الدول الكبرى في معالجتها ببعيدة عنّا، فقد كان الفشل ذريعا بل تسبب باستفحال المشكلة حتى انجرّ الكثيرون إلى الإمعان والزيادة في الشراب من الأنواع الأشد رداءة مما يعطينا العبرة في إعجاز التربية القرآنية التي كان التدرج في نزول الوحي بالاحكام من أنجع وسائلها.

(١) في كتابه الناسخ والمنسوخ، انظر الإتقان.
(٢) في فضائل القرآن ج ٦ ص ١٨٥.


الصفحة التالية
Icon