وضرب مثالًا آخر بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (التوبة: ٦٠) التفرقة بين استخدام اللام ﴿لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ﴾ وبين استخدام "في" ﴿فِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ فاستدل بذلك على أن الطائفة الأخيرة المذكورة "عتق الرقاب والغارمين وفي سبيل الله" أنّ هؤلاء أولى بالصدقات من غيرهم، ومِنْ ثَمّ استُخْدِم معهم حرفُ الجَرّ "في" الذي يُفيد الظّرفية، وكُرّر مرة ثانية، وفصل به بين الغارمين، وبين سبيل الله؛ ليعلم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه. وهذه لطائف يتنبه إليها من ينظر في كتاب الله سبحانه وتعالى.
وبقي أن أشير لك إلى أن هذا الفن الذي أضاء جنباته ابن الأثير في كتابه، وضرب له أمثلة، هناك من صنف فيه كتبًا مستقلة لهذه المسألة، في الاستخدامات في القرآن الكريم بإتيانه حرف مكان حرف، أو بإتيان لفظ مكان لفظ آخر، ومن ذلك كتاب (درة التنزل وغرة التأويل) للخطيب الإسكافي المتوفى سنة أربعمائة وعشرين للهجرة، هذا الكتاب أفرد فيه الآيات التي تشابهت في مواضعها، واستُخدم فيها أداة في موضع، وأداة أخرى في موضع آخر؛ أو لفظ في موضع، ولفظ في موضع آخر.
ونضرب لك بعض الأمثلة التي عرضها لما نحن بصدده وهو: حروف المعاني: فأضرب مثالًا لما أتى به بموضع وضع فيه حرفان للعطف، والموضعان متشابهان، وهما كقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ (البقرة: ٣٥) وجاءت في سورة الأعراف: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ (الأعراف: ١٩).