ويضرب هنا مثال أحسن الشيخ في ذكره -الرافعي- قال: لو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان من الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته. يعني: هذا الأمر معروف عند العرب في طباعها، أنها تتبع ما يجيء على فطرتهم اللغوية التي فطروا عليها، وطريقتهم التي يتحدثون بها. فهناك طائفة من الناس يذهبون: إلى أن القرآن لو هو قد نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير القرشية لكان ذلك وجهًا من إعجازه. وهذا كلام مَن لا يدري كيف يقول؛ لما سبق ذكره، من أن النزول على لغة قريش هو الطبيعي لسيادة قريش، وهو المنطقي بنزوله على لغة يعرفونها، فقد كان من إعجاز القرآن أن يأتيهم بأفصح ما تنتهي إليه لغات العرب جميعًا.
فهنا يظهر لنا أن القرآن نزل بلغة قريش، وإن كان في القرآن ألفاظ -سنتحدث عنها مستقبلًا إن شاء الله سبحانه تعالى- مما يسمى بالغريب، أو مما يسمى بالمعرب، أو غيره من الكلمات، وإن كان هناك ألفاظ جاءت على لغة أقوام أخر، كقوله تعالى: ﴿لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ (الحجرات: ١٤) أي: لا ينقصكم، وهذه لغة بني عبس، فإن هذا الذي يذكر من مثل هذا لا يتعدى كلمة أو كلمتين في القرآن كله تنسب إلى لغة من اللغات.
فبتالي لغة القرآن الكريم جاءت بلغة قريش على ما ألفه العرب في كلامهم، وجرت لغة القرآن على أحرف مختلفات في منطق الكلام كتحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة، وما بينهما، والإظهار والإدغام، وضم الهاء وكسرها، من: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ (الفاتحة: ٧) و ﴿إِلَيْهِمْْ﴾ (آل عمران: ٧٧) وتقرأ: "عليهُم" و"إليهُم"، وإلحاق الواو فيهما، وفي لفظتين: "منهمُ" (البقرة: ٧٥) و"عنهمُ" (البقرة: ٨٦) وإلحاق الياء في: ﴿إِلَيْهِ﴾ (البقرة: ١٧٨) و ﴿عَلَيْهِ﴾ (البقرة: ١٨٢) و ﴿فِيهِ﴾ (البقرة: ١٨٥) ونحو ذلك.
فكان أهل كل لحن يقرءونه بلحنهم، وربما استعمل القرآن الكلمةَ الواحدةَ على منطق أهل اللغات المختلفة، فجاء بها على وجهين؛ لمناسبةٍ في نظمه، ويضرب