البشر وخُطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر، وما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني، وحسن الفاتحة والخاتمة؟! ثم اتلوا ما بعدها من الآي، واعرف وجه الخلوص من شيء إلى شيء، من احتجاج إلى وعيد، ومن إعذار إلى إنذار، ومن فنون من الأمر شتى مختلفة تأتلف بشريف النظم، ومتباعدة تتقارب بعلي الضم.
ثم جاء إلى قوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ (غافر: ٥، ٦) يقول: انظر إلى قوله تعالى: ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ وهل تقع في الحسن موقعَ قوله: ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾ كلمة؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟ وهل يسد مسده في الأصالة نكتة؟ لو وضع موضع ذلك "ليقتلوه" أو "ليرجموه" أو "لينفوه" أو "ليطردوه" أو "ليهلكوه" أو "ليذلوه" ونحو هذا، ما كان ذلك بديعًا ولا بارعًا ولا عجيبًا ولا بالغًا، فانقض موضع ذلك الكلمة، وتعلَّم به ما تذهب إليه من تخير الكلام، وانتقاء الألفاظ، والابتداء بالمعاني.
ويربط بين هذا ويقول: إن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله تعالى: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة، وأتلاها تِلو العذاب في الدنيا على الإحكام الذي رأيتَ.
إلى غير ذلك مما ذكره، بل إنه تعدَّى ذلك إلى أن القرآن حتى في آيات الأحكام، فهو غاية في النظم على صورة لا يستطيع أحدٌ أن ينظم مثلها، وضرب أمثلة بآيات ذكرت في الأحكام كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ


الصفحة التالية
Icon