وأيضًا نبهوا على عملية الماضي أنه يأتي على المستقبل بقرينة المعنى، كقول أخوة يوسف -عليه السلام- ﴿فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ﴾ (يوسف: ٦٣) فقولهم: ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ لو أخذ على ظاهره لكان اتهامًا لهم بالكذب؛ لأنّ يوسف عليه السلام، وفاهم الكيل وأحسن إليهم وطالبهم بأن يعودوا له بأخ له من أبيه فإنما قالوا: ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ على معنى "سيمنع منا الكيل إن لم تعطنا أخانا" وذلك واضح بدلالة السياق.
هذا كله تمهيد لما نحن بصدده، أو بالكلام عنه أنّ البلاغي يهتم في هذه المسألةباستخدام الفعل بصيغة غير التي وضع لها في الأساس، أو بمعنى آخر العدول من صيغة إلى صيغة؛ بأن يقع الماضي بين مضارعين، أو أن يراد بالماضي المضارعة، أو أن يراد بالمضارع الماضي وعكس ذلك.
وهذا ما أشار إليه ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) ووضح المسألة وعد ذلك من الالتفات، وذكر أنه من شجاعة العربية، وضرب أمثلة جميلة لك أن تتأملها لترى ما فيها من إبداع وإعجاز في النظم القرآني. يقول: "ليس الانتقال من صيغة إلى صيغة طلبًا للتوسع في أساليب الكلام فقط؛ بل لأمر وراء ذلك، وإنّما يُقصد إليه تعظيمًا لحال من أجرى عليه الفعل المُستقبل، وتفخيمًا لأمره، وبالضد في ذلك فيما أجرى عليه فعل الأمر".
فهو هنا يتحدث عن الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر؛ فيرى أن ذلك لا يكون إلا لغرض بلاغي فمما جاء منه قوله تعالى: ﴿يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون﴾ (هود: ٤٤ - ٥٤).