والتلاؤم بين الحروف أساسه البعد عن القرب الشديد من المخارج أو البعد الشديد في المخارج، بمعنى أن الخليل -رحمه الله- ربط بين المخارج وبين التلاؤم، ربط بينها بهذه العبارة الجميلة، يقول الباقلاني: ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد أو قرب شديد، فإذا بعُد فهو كالطفر أي كأنه يثب مرتفعًا، يثب يثب وهو يتحرك، وإذا قرب جدًّا كان بمنزلة مشي المقيد المكتوف الذي لا يستطيع أن يتحرك، ويبين بقرب المخارج وتباعدها؛ أي أن التنافر في الحروف يبين بالقرب والبعد، ولعلك أيها الابن مر عليك تباعًا هذا البيت المشهور الذي ذكروه مثالًا لتنافر الحروف لقروب مخرجها:
وقبر حرب بمكان قفر... وليس قرب قبر حرب قبر
هذا البيت الذي موجود في كتب البلاغة يُذكر مثالًا للتنافر بين الحروف بسبب هذه المخارج، نجد عكس التنافر هو التلاؤم، التلاؤم الذي هو مجسد في القرآن الكريم، بمعنى العلماء يقولون: القرآن كله في الطبقة العليا للتلاؤم، ولكن الفرق أن بعض الناس أحسن إحساسًا له من بعض، وذلك كما أن في الشعر هناك من يفطن للموزون بخلاف بعض، يعني هناك من يشعر بقيمة الشعر لإدراكه الوزن، فعندما يمر به بيت من الشعر به كسر أو به خلل يظهر عليه وترى تغير وجهه لأنه أحس أن هناك خللًا في هذا البيت وأن هناك كسرًا قد اعتراه، كذلك في القرآن يتفاوت الإحساس بمدى هذا التلاؤم وبروعته بمدى إحساسك باللغة وفهمك لها، فالتلاؤم -أيها الابن الكريم- كما قيل هو حسن الكلام في السمع وسهولته في اللفظ ووقع المعنى في القلب، هذا التلاؤم مجسد في كتاب الله وفي آياته كما سنذكر الآن من أمثلة.