بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول.
وهو مع قوة بيانه وشدة سلطانه، عميق البحار واسع الأقطار، يقول القارئ إذا قرأه والسامع إذا سمعه: قد فهمته لتجلى فحواه فإذا تأمله كأنه ما قرأه أو سمعه لقوة مبناه، ودقة معناه، فلزم أن يقرأه القارئ على روية وإحكام، كما كان يفعلُ رسول الله - ﷺ -، فقد أعطى الحروف حقها فى قراءته الشريفة على الأصول الصحيحة، فلم تكن قراءته هذًّا ولا عجلة بل كانت مفسرّة حرفًا حرفًا.
كما كان - ﷺ - يقطِّع قراءته كل آية فيقول مثلا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ويقف، ثم يقول ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ويقف، ثم يقول ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وهكذا.
وقد روى الزهري أن قراءته - ﷺ - كانت آية آية، وروى ذلك البيهقى أيضًا في «شُعَب الإيمان» وغيره كثيرون ممن رجَّحوا الوقوف على رؤوس الآي، وإن تعلقت في المعنى بما بعدها.
ولا شك في أنّ إتباع هدى النبي - ﷺ - وسنته أولى من اتباع الرأي القائل بتسجيل اتباع الأغراض والمقاصد للوقوف عند انتهائها، وقد قال -تَعَالَى-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)﴾ [الأحزاب: ٢١].
وقال -تَعَالَى-: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤].
وكما كان - ﷺ - يقرأ القرآن بنفسه كان يحب أن يسمعه من غيره، وفى كلٍّ من قراءته واستماعه كان أحيانًا يذرف الدمع من عينيه إجلالاً وهيبة من عظمته واستعظامًا لقدرته وإشفاقًا على أمته، وقد طلب - ﷺ - من ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه فقال: أأقر وعليك أنزل؟! فقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا بلغ قول الله -تَعَالَى-: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١]. بكى - ﷺ - حتى ذرفت عيناه بالدموع.
وكان - ﷺ - يذكر الله على جميع أحيانه، وكان يقرأ القرآن قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا ومتوضئا ومحدثًا، ولم يكن يمنعه شىء من قراءة القرآن إلا الجنابة.
ويجب أن يتلو المؤمن القرآن الكريم حق تلاوته كما كان يفعل رسول الله - ﷺ - وأصحابه، فقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: «إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل».
وقال حجة الإسلام الإمام الغزالي - رضي الله عنه -:
«وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ، والتأثر بالأزجار والائتمار،