والقول الخامس: أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة، ولكن الله يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها، اعتِلاَلاً بأن الله أخبر برؤيته، فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعفت قواها بأضعف من رؤية الآخرة، لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه، وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف، فلما كان هذا مانعاً من الإدراك - وقد أخبر الله تعالى بإدراكه - اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه، وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك. ثم قال: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ فاحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: لطيف بعباده في الإِنعام عليهم، خبير بمصالحهم. والثاني: لطيف في التدبير خبير بالحكمة.
﴿قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون﴾ قوله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل. والثاني: أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر. والثالث: أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي، ليكون أبلغ في الزجر، وأدعى إلى الإِجابة، وأجمع للمصلحة. ثم قال تعالى: ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ وفي الكلام حذف، وتقديره: ولئلا يقولوا درست، فحذف ذلك إيجازاً كقوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٦٧] أي لئلا تضلوا. وفي ﴿دَرَسْتَ﴾ خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها: