قال ابن جنى «١»: «باب اختلاف اللّغات وكلها حجّة» اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك، ولا تحظره عليهم، ألا ترى أن لغة التميميين فى ترك إعمال «ما» يقبلها القياس، ولغة الحجازيين فى إعمالها كذلك، لأن لكل واحد من القومين ضربا من القياس يؤخذ به، ويخلد إلى مثله، وليس لك أن ترد إحدى اللّغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، لكن غاية ما لك فى ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد أنسا بها، فأما رد إحداهما بالأخرى فلا، أو لا ترى إلى قول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف».
هذا حكم اللّغتين إذا كانتا فى الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين، أو كالمتراسلتين.
فأما أن تقل إحداهما جدا وتكثر الأخرى جدا فإنك تأخذ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسا...
حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن «٢»، عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال:
ارتفعت قريش فى الفصاحة عن عنعنة تميم «٣»، وكشكشة ربيعة «٤»،

(١) عثمان بن جنى الموصلى أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو، من كتبه «المحتسب فى شواذ القراءات»، و «الخصائص فى اللّغة» - توفى سنة ٣٩٢ هـ (وفيات الأعيان ٣/ ٢٤٦).
(٢) أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بابن مقسم، وهو من القرّاء، وكان رواية ثعلب، توفى سنة ٣٥٥ هـ، ويروى ابن جنى عنه أخبار ثعلب وعلمه (بغية الوعاة ص ٣٦).
(٣) عنعنة تميم، ينطقون الهمزة عينا فيقولون فى «أن»: «عن» كما سبق.
(٤) كشكشة ربيعة: يجعلون الشين مكان الكاف فى خطاب المؤنث، فيقولون: «عليك»:
«عليش» أو يزيدون بعد الكاف شينا فيقولون: «عليكش» فى الوقف.


الصفحة التالية
Icon