وجعلت الفاءُ جواباً للجزاءِ وكُسِرَتْ إِنَّ دخلت على ابتداءٍ وخبر، كأنك
قلت فهو غفُورٌ رَحِيمٌ. إِلا أن الكلام بـ إِنَّ أوكدُ. وَمَنْ كسرَ الأولَى فعل ما ذكرنا من الحكاية، وَإِذا فتح الثانية مع كسر الأولى. لأن مَعناها المصدَرُ، والخبرُ محذُوفٌ.
المعنى إِنه مَن عَمِل كذا وَكذا فمغفرةُ اللَّه له.
ومن فتح الأولى وكسرَ الثانِيةَ فالمعنى رَاجعٌ إلى المَصْدَرِ.
وكأنَكَ لَم تَذْكُر إن الثانية، المعنى كتب ربكم على نفسه أنه غفورٌ رَحِيمْ.
ومعنى (كتب) أوجَبَ ذَلِكَ إيجاباً مَؤكَداً، وجائز أن يكون كتب ذلك في
اللوح المحفوظ، وإِنما خوطب الخلقُ بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد
الشيء المؤَخر إِنما يحفظ بالكِتَابِ، ونحن نشرح ذلك في موضعه شرحاً أوكد
من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
ومعنى: يعملون السوءَ بجهالة، أي ليس بأنهم يجهلون أنه سُوء.
لو أتى المسلم ما يجهل أنَّه سوءٌ لكان كمن لم يتعمد سوءاً، ولَم يُوقع سوءاً.
وقولك عمل فلان كذا وكذا بجهالة يحتمل أمرين، فأحدُهما أنَّه عمله
وهو جاهل بالمكروه فيه، أي لم يعرف أن فيه مكروهاً، والآخر أقدم عليه على بصيرة، وَعَلِمَ أن عاقبته مكروهة، قآثر العَاجِلَ فجعل جاهلًا، فإِنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة.
فهذا معنى: (مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءًا بِجَهَالَةٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
يقرأ بالتاءِ والياءِ، فمن قرأ بالتاءِ فلان السبيل الطريق، وَهُو يُذكر
ويَؤنْثُ، ويجوز وجه ثالث: ولتَستَبينَ سبيلَ المُجرِمِينَ - بنصب السبيل -، لأن المعنى ولتستبين أنت يا محمد سبيلَ المجرمين.
فإِن قال قائل أفلم يكن النبي - ﷺ - مُستبيناً
سبِيلَ المجرمين؟
فالجواب في هذا أن جميع ما يخاطب به