بالتشديد، فالأصل تتساءلون. وأدْغمت التاءُ في السين لقرب مكان هذه
من هذه. ومن قرأ بالتخفيف فالأصل تتساءَلُون، إلا أن التاءَ الثانية حذفت
لاجتماع التَاءَيْن، وذلك يُستثقل في اللفْظ فوقع الحذف استخفافاً، لأن الكلام غيرُ مُلْبس.
ومعنى (تساءَلُون بِهِ) تَطْلُبُونَ حُقُوقكم بِهِ.
(والأرْحَامَ)
القراءَة الجيِّدةُ نصب الأرحام. المعنى واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فأما
الجر في الأرحامِ فخطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار شعر (١)، وخطأ أيضاً
في أمْر الدين عظيم، لأن النبي - ﷺ - قال:
" لا تحلفوا بآبائكم ".
فكيف يكون تساءَلون به وبالرحم على ذا؟.
رأيت أبا إسحاق إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير اللَّه
أمر عظيم، وأن ذلك خاص للَّهِ - عزَّ وجلَّ - على ما أتت به الرواية.
فأما العربية فإجماع النحويين أنه يَقْبحُ أنْ يُنْسق باسم ظاهر على اسم
مضمر في حال الجر إلا بإِظهار الجار، يَسْتَقْبح النحوُيون: مررت به وزيدٍ.
وبك وزيدٍ، إِلا مع إظهار الخافض حتى يقولوا بك وبزيد، فقال بعضهم:
لأن المخفوض حرف مُتَصِل غيرُ منفصل، فكأنَّه كالتنوين في الاسم، فقبح أن
يعطف باسم يقُومُ بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. وقد فسر المازي هذا تفسيراً مُقْنِعاً فقال: الثاني في العطف شريك للأول، فإِن كان الأول يصلح شريكاً
قوله: ﴿والأرحام﴾ الجمهور/ على نصب ميم «والأرحام» وفيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها. وقَدَّر بعضهم مضافاً أي: قَطْعَ الأرحام، ويقال: «إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام، وذلك أن معنى اتقوا الله: اتقوا مخالفَتَه، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها». والثاني: أنه معطوفٌ على محل المجرور في «به» نحو: مررت بزيد وعمراً، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع. ويؤيد هذا قراءة عبد الله: «وبالأرحام». وقال أبو البقاء: «تُعَظِّمونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له».
وقرأ حمزة «والأرحامِ» بالجر، وفيها قولان، أحدهما: أنه عطفٌ على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد﴾ [البقرة: ٢١٧].
وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزَّجَّاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: «حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال:» والأرحامِ «بخفض الأرحام هو كقولهم:» أسألك بالله والرحمِ «قال:» وهذا قبيحٌ «لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه».
والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به، وجوابُ القسم: «إنَّ الله كان عليكم رقيباً». وضُعِّف هذا بوجهين، أحدهما: أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في «بالأرحام» يمنعان من ذلك، والأصل توافقُ القراءات. والثاني: أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك.
وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: «تقديره: وربِّ الأرحام: قال أبو البقاء: وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله» يعني الحلف بالله تعالى. ولقائل [أن يقول:] «إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك»، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة.
وقرأ عبد الله أيضاً: «والأرحامُ» رفعاً وهو على الابتداء، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية: «أهلٌ أَنْ توصل»، وقَدَّره الزمخشري: و «الأرحامُ مِمَّا يتقى، أو: مما يُتَساءل به»، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية، بخلاف الأول، فإنه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّره أبو البقاء: «والأرحامُ محترمة» أي: واجبٌ حرمتُها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقال العلامة الآلوسي:
﴿والأرحام﴾ بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما، أو على محل المجرور إن كان المحل له، والكلام على حدّ مررت بزيد، وعمراً، وينصره قراءة (تساءلون به وبالأرحام) وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ويقولون: أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم كما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى؛ وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد والضحاك عن ابن عباس، وابن المنذر عن عكرمة، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واختاره الفراء والزَّجَّاج، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها، وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.
وأول من شنع على حمزة في هذ القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة منهم ابن عطية وزعم أنه يردها وجهان: أحدهما: أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا مما يغض من الفصاحة، والثاني: أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفاً فليحلف بالله تعالى أو ليصمت " وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبى ليلى، وجعفر بن محمد الصادق وكان صالحاً ورعاً ثقة في الحديث من الطبقة الثالثة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفة قراءة وعربية أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في «البحر» الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث إن ذكر الأرحام حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقاً منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلاً فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق».
وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو كقول القائل والرحم لأفعلن كذا، ولقد فعلت كذا، فلا يكون متعلق النهي في شيء، والقول بأن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يخفى ما فيه فافهم وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر، فقال في «الخصائص»: باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك.
رسم دار وقفت في طلله...
أي رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: خير عافاك الله تعالى أي بخير يحذف الباء لدلالة الحال عليها، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي «شرح المفصل» أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها، وقد مشى على ذلك أيضاً الزمخشري في «أحاجيه»، وذكر صاحب «الكشف» أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو الله لأفعلن وفي نحو ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك والحمل على ما ثبت هو الوجه، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو اتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليك وترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.
وقرأ ابن زيد ﴿والأرحام﴾ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي والأرحام كذلك أي مما يتقى لقرينة ﴿اتقوا﴾ أو مما يتساءل به لقرينة ﴿تَسَاءلُونَ﴾ وقدره ابن عطية أهل لأن توصل وابن جني مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى. اهـ (روح المعاني. ٤/ ١٨٤ - ١٨٥).