خبرَ مَا، ويجعلونه بمنزلة ليس وَ " مَا " مَعناها معنى ليس في النفي، وهذه
لغة أهل الحجاز، وهي اللغَةُ القُدْمَى الجيدَةُ.
وزعم بعضهم أن الرفْعَ في قولك: (مَا هَذَا بَشَرًا) أقْوى الوجهين، وهذا غلط، لأن كتاب اللَّه ولغة رسول اللَّه أقْوى الأشياء وأقوى اللغات.
ولغة بني تميم: ما هذا بشر.
ولا تجوز القراءة بها إلَّا بروايةٍ صَحيحةٍ.
والدليل على ذلك إجماعهم على: (مَا هُنَّ أمَّهَاتِهِمْ)
وما قرأ أحَد ما هُنَّ أُمَّهَاتُهمْ.
* * *
وقوله: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ).
القراءة الجيدة تخفيف لَيَكُونًا. والوقوف عليها بالألف، لأن النون
الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف، تقول: اضْرباً زيداً، فإذا وقفت قلت:
اضربَا، كما أبدلت في: رأيتُ زيداً الألف من التنوين، وقد قرئت: ولتكونَنَّ - بتشديد النُّونِ، وأكرهها لخلاف المصحف، لأنَّ الشديدة لا يُبْدَلُ منها شيء.
(مِنَ الصَّاغِرِينَ). مِنَ المذَلِّيِنَ.
* * *
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣)
والسَّجْن جميعاً - بكسر السين وفتحها - فمن فتح فعلى المصدر.
المعنى أَنْ أُسْجَنَ أَحبُّ إليَّ، ومن كسرَ فعَلَى اسم المكَانِ، فيكون المعنى:
نُزولُ السجنِ أَحبُّ إليَّ مِمًا يَدْعُونَنِي إليْهِ، أي من ركوب المعصية.
(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ).
أي إلا تعْصِمْني أَصْبُ إليْهِنَّ، أَي أَمِلْ إلَيْهن. يقال: صبا إلى اللَّهْوِ
يصبو صُبُوًّا، وصِبِيًّا، وَصَبًّا، إذا مالَ إلَيْه (١).

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَصْبُ﴾ قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبو أي: رَقَّ شَوْقُه. والصَّبْوة: المَيْلُ إلى الهوى، ومنه «الصَّبا» لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي: تميل، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال: صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً، وصَبِيَ يصبى صَبَاً، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب.
وقرأت فرقة «أَصَبُّ» بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ، والصَّبابَةُ: رِقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء
اهـ (الدر المصون).


الصفحة التالية
Icon