(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ).
فهذا يدل على أنهم لو قالوا ذلك معتقدين لكانوا صادقين، ثم أكدَ ذلك
فقال:
(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧)
وقُرئت فإن اللَّه لا يُهدَى من يُضِل، كما قال: (من يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ
له). وَفيها وجه ثالث في القراءة.. " لَا يُهْدِي مَنْ يَضل " وهو أقلُّ الثلاثة.
* * *
وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)
(وَعْدًا) منصوب مُؤكد، المعنى بلى يبعثهم اللَّه وعداً عليه حقاً، (لِيُبَيْنَ لَهُمَ
ائذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ).
فهذا على ضربين، جائز أن يكون معلقاً بالبعث، ويكون المعنى: بلى
يبعثهم الله لِيُبيَّنَ - لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، وجائز أن يكون
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) معلقاً بقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) لِيُبَيِّنَ لهم اختلافهم، وأنهم كانوا مِن قبله على ضلالة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
القراءة الرفع، وقد قرئت بالنصب، فالرفع على فهو، ويكون على
معنى ما أراد اللَّه فهو يكون، والنصب على ضربين
أحدهما أن يكون قوله فَيَكونَ عَطْفاً على (أنْ نَقُولَ فيكونَ).
ويجوز أن يكون نصباً على جواب (كن) فـ (قَوْلُنَا) رفع بالابتداء.
وخبره (أن نقول)، المعنى إنما قولنا لكل مرادٍ قولنا كن، وهذا خوطب العباد فيه بِمَا يعْقِلُونَ وما أراد اللَّه فهو كائن على كل حال

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿لاَ يَهْدِي﴾ قرأ الكوفيون «يَهْدِي» بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله، أي: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه، ف «مَنْ» مفعولُ «يَهْدِي» ويؤيده قراءةُ أُبَيّ «فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ، ولِمَنْ أضلَّ»، وأنه في معنى قولِه: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦].
والثاني: أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ، أي: لا يَهْدِيْ المُضِلَّون، و «يَهْدِي» يجيءُ في معنى يهتدي. يقال: هداه فَهَدَى، أي: اهتدى. ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله «يَهْدِي» بتشديدِ الدالِ المكسورةِ، فَأَدْغم. ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس. والعائدُ على «مَنْ» محذوفٌ: ﴿مَن يُضِلُّ﴾، أي: الذي يُضِلُّه اللهُ.
والباقون: «لا يُهْدَى» بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول، و «مَنْ» قائمٌ مَقامَ فاعِله، وعائدُه محذوفٌ أيضاً.
وجَوَّز أبو البقاء في «مَنْ» أن يكونَ مبتدأً و «لا يَهْدِي» خبره، يعني: مقدَّمٌ عليه. وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو: «زيدٌ لا يَضْرِبُ»، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل.
وقُرِئ «لا يُهْدِيْ» بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ. قال ابن عطية: «وهي ضعيفةٌ» قال الشيخ: «وإذا ثَبَتَ أنَّ» هَدَى «لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم، فالمعنى: لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ». اهـ (الدر المصون).


الصفحة التالية
Icon