سَقَى قوْمِي بني مَجْدٍ وأسْقى... نمَيراً والقبائل من هلال
وهذا البيت وضعه النحويونَ على أنَّه سَقَى وأسْقَى بمعنى واحد، وهو
يحتمل التفسير الثاني.
والأنعام لفظه لفظ جمع، وهو اسم للجنس يذكر ويؤنث، يقال هو
الأنعام وهي الأنعام. نسقيكم مما في بطونه.
وفي موضع آخر (مما في بطونها). فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن في إخْراجه اللبَن (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) دَلِيلًا على قدرةٍ لا يقدِر عليها إلا الله الذي ليس كمثله شيء (١).
* * *
وقوله عَز وجل: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
أي فيما بيَّنَّا علامة تدل على توحيد اللَّه.
وقالوا في تفسير قوله: (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) إنه الخمرُ من قبل أن تحرمَ.
والرزق الحسَنُ يؤكل من الأعناب والتُموُرِ.
وقيل إن معنى السكر الطعم
وأنشدوا:
جعلت أعراض الكرام سَكَراً
أي جعلتَ دَمَهُم طُعماً لك. وهذا بالتفسير الأولِ أشبَهُ.
المعنى جعلْتَ تتخمًرُ بأعراضِ الكرام، وهو أبين - فيما يقال: الذي يتبرك. في أعراض الناس.
قوله: ﴿مما في بطونه﴾ الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيه وجوهاً: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لإفادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو التذكير، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث، فلهذا السبب قال ههنا ﴿فِي بُطُونِهِ﴾، وقال في سورة المؤمنين: ﴿فِى بُطُونِهَا﴾ [المؤمنون: ٢١].
الثاني: قوله: ﴿فِي بُطُونِهِ﴾ أي في بطون ما ذكرنا، وهذا جواب الكسائي.
قال المبرد: هذا شائع في القرآن.
قال تعالى: ﴿فَلَماَّ رَأَى الشمس بازغةً قَالَ هذا رَبّى﴾ [الأنعام: ٧٨] يعني هذا الشيء الطالع ربي.
وقال: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾ [المدثر: ٥٤، ٥٥] أي ذكر هذا الشيء.
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي، أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً، فلا يجوز، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة.
الثالث: أن فيه إضماراً، والتقدير: نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن.
أهـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢٠ صـ ٥٢ - ٥٣﴾
وقال السَّمين:
وذَكَّر في قوله ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين». قلت «وضَعْفُها عنده من حيث المعنى: وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام.
قوله: ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ يجوز أن تكونَ» مِنْ «للتبعيض، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية. وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال الزمخشري:» ذكر سيبويه الأنعامَ في باب «ما لا ينصرف» في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم: ثوبٌ أَكْياش، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً، وأمَّا «في بطونها» في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع. ويجوز أن يُقال في «الأنعام» وجهان، أحدهما: أن يكون تكسير «نَعَم» كأَجْبال في جَبَل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [كَنَعم]، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ «نَعَم» في قوله:
٢٩٩١ - في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ... يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ
وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان: أنه تكسير «نَعَم»، وأنَّه في معنى الجمع «.
قال الشيخ: أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في:» هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه: «وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول: أَقْوال وأقاويل، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع. وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ». ثم قال: «وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل، كما تقول: جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول: أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ. وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد، مِنَ العرب مَنْ يقول: هو الأنعام: قال الله عز وجل ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾. وقال أبو الخطاب:» سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول: هذا ثوبٌ أكياش «.
قال:» والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ: «أُتِيّ» بضمِّ الهمزة، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول: «هو الأنعامُ»، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال:
٢٩٩٢ - تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى... وقلنا للنساءِ بها أَقيمي
ولذلك قال سيبويه: «وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد» فقوله «قد يقع للواحد» دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ، فقولُ الزمخشري: «أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال» تحريفٌ في اللفظ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه. ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة: «وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع». قال: «فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة».
قلتُ: الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه، ولم يُحَرِّفْ لفظَه، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه.
وقيل: إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام. وقال الكسائي: «أي في بطونِ ما ذَكَرَ». قال المبرد: «وهذا شائعٌ في القرآن، قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١١١٢]، أي: ذَكَر هذا الشيءَ. وقال تعالى: ﴿فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨]، أي: هذا الشيءُ الطالعُ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ، لا يجوز: جاريتُك ذهب». قلت: وعلى ذلك خُرِّج قوله:
٢٩٩٣ - فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ... كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ
أي: كأنَّ المذكورَ. وقيل: جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة، ومن الأولِ قولُ الشاعر: /
٢٩٩٤ - مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ... وقيل: أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ، فإنه يَسُد مَسَدَّه «نَعَم»، و «نَعَم» يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه:
٢٩٩٥ - وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ... لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن، ومثلُه قولهم «هو أحسنُ الفتيان وأجملُه»، أي: أحسنُ فتىً، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه.
وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ. والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ، فأصلُ اللبنِ [ماءُ] الفحلِ قال: «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ. فإن قال: أراد الجنسَ فقد ذُكِر». يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على «فَحْل» المرادِ به الجنسُ. قلت: وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير. اهـ (الدر المصون).