قالوا في زكيةٍ بريئة، أي لم يُرَ ما يُوجِبُ قتلَها، و (نُكْراً) أقل من قوله (إمْراً)، لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر مِنْ قَتْلِ نفسٍ وَاحِدَةٍ وقد قيل إنَّ
(نُكْراً) ههنا معناه لقد جئتَ شيئاً أَنْكَرَ من الأمر الأول.
و (نُكْراً) منصوب على ضربين: أحدهما معناه أتيْتَ شيئاً نكراً، ويجوز أن
- يكون معناه: جئْتُ بشَيءٍ نكرٍ، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب.
* * *
(قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا
(٧٦)
أي بعد هذه المسألة: (فَلَا تُصَاحِبْني).
وُيقْرا فلا تصْحَبْني، وَقِرَاءة شَاذةٌ فَلاَ تُصْحِبْني..
فمن قرأ فلا تَصْحَبْني فإن معناه فَلَا تَكُونَنَّ صَاحِبِي، ومن قرأ فلا
تصاحبني فمعناه إنْ طلبتُ صِحبتك فلا تتابعني على ذلك.
ومن قرأ تُصْحِبْني، ففيها بأربعة أوجه، فأجْوَدها فلا تُتابعْنِي على ذلك، يقال قد أصحب المُهْرُ إذا انقاد، فيكون معناه فلا تتابعَني في شيء ألتمسه منك.
ويجوز أن يكونَ معناه: فَلَا تُصْحِبْني أحَداً ولا أعرف لهذا معنى لأن موسى
لم يكن سأل الخَضِرَ أن يصْحِبَهُ أحَداً.
وقوله: (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) (١).
ويقرأ من لَدُنِي بتخفيف النُّونِ، لأن أصل لّدُنْ الِإسكان، فإذا أضَفْتَها
إلى نَفْسِك زدت نوناً ليَعْلَمَ سُكُونُ النونِ الأولى، تقول من لَدُنْ زَيْدٍ، فتسكِنَ النُونَ ثم تضيف إلى نفسك، فتقول من لَدُنِى كما تقول عن زَيْدٍ وَعَني. ومن قال مِنْ لَدْنِي لم يجز أن يقولَ عَنِي ومِنِي بحدف النونِ، لأن لدن اسم غير متمكن، ومن وعن حرفانِ جاءا لمعنًى.
ولدُن مع ذلك أَثْقَلُ مِنْ " مِنْ " و " فَيْ ".
والدليل على أن الأسماء يجوز فيها حذف النون قولهم: قَدْنِي في

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿فَلاَ تُصَاحِبْنِي﴾: العامَّةُ على «تصاحِبْني» من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: «فلا تَصْحَبَنِّي» مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ «فلا تُصْحِبْني عِلْمَك» فأظهر المفعول.
قوله: ﴿مِن لَّدُنِّي﴾ العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على «لَدُن» لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون «مِنْ» و «عَنْ» فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد.
ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل «لَدُن». إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: «لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب» لَدُنْ «مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية». وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ ب «لَدُ» لغةً في «لَدُن» حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون.
والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: «لَدُني» بالتخفيف.
وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ «عَنْ» و «مِنْ» في قوله:
٣١٨٣ - أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ... لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على «لَدْ» الساكنة الدال، لغةً في «لدن» فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد «عَضْد» وبابِه.
وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ [الآية: ١١]، وفي قوله في هذه السورةِ «مِنْ لدنه» في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ «عُذُراً» بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً «عُذْرِي» مضافاً لياءِ المتكلم.
و ﴿مِن لَّدُنِّي﴾ متعلقٌ ب «بَلَغْتَ»، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عُذْرا».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon