يعتريك فيطلب مَا عِنْدَكَ، سألك إذ سئلِتَ عن السؤال وكذلك المعتري (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
وقرئت: (لَن تَنَالَ اللَّهَ لحُومُها) بالتاء، فمن قرأ بالياء فَلِجَمْعِ اللحوم.
ومن قرأ بالتاء فلجماعة اللحوم - وكانوا إذا ذَبَحُوا لَطخوا البيت بالدمِ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ الَّذِي يَصِلُ إليهِ تَقْواهُ وطَاعَتُه فيما يَأمُر بِهِ.
(وَلَكِنْ يَنَالُه التَقْوَى مِنْكُمْ).
وتناله - التقوى منكم - بالياء والتاء - فمن أنثَ فللفظ التقوى، ومَنْ ذَكَرَ
فلأن معنى التقوى والتقى واحِدٌ.
* * *
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)
ويدْفَعُ عن الذين آمنوا.
هذا يدل على النَصْرِ مِنْ عِنْده، أي فَإذَا دَفَعْتُم، أي فإذا فَعَلْتُم هذا، وخَالَفْتُم الجَاهِليةَ فيما تفعلونَهُ فِي نَحْرِهِمْ.
وإشراكهم بالله، فإنَّ اللَّه يدْفَعُ عن حِزْبِه.
وقوله: (كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).
(خَوَّانٍ) فعَّال من الخِيَانَةِ، أي من ذكر اسم غير الله وتَقَرَّبَ إلى الأصنام
بِذَبِيحَتِه فهو خَوَّانٌ كَفُورٌ.
والبُدْنُ قيل إنها الإبِلُ خاصَّةً، وقيل إنها الإبل والبَقَرُ، وَلَا أعْلَمُ أحَداً
قال: إن الشاء داخلة فيها، فأمَّا من قال إنَها الِإبِلُ والبَقَرُ فَهُمْ أكبر فقهاء
الأمْصَارِ، ولكن الاستعمال في السِّيَاقةِ إلَى البَيْتِ الإبِل فلذلك قال من قال
إنها - الإبِلُ.
قوله: ﴿والبدن﴾: العامَّةُ على نصب «البُدْنَ» على الاشتغال. ورُجِّح النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه، لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ. وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ، والجملةُ بعدها الخبرُ.
والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ. وقرأ الحسن وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر بضمِّها، وهما جمعان ل «بَدَنَة» نحو: ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ. فالتسكينُ يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ، وأَنْ يكونَ أصلاً. وقيل: البُدْنُ والبُدُنُ جمعُ بَدَن، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو: خَشَبة وخَشَب، ثم يُجْمع خَشَباً على خُشُب وخُشْب. / وقيل: البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ جنسٍ. وقرأ ابنُ أبي إسحاق «البُدُنَّ» بضم الباء والدال وتشديد النون. وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه قرأ كالحسن، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها كقولِهم: «هذا فَرُخّْ» ثم أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ في ذلك. ويُحتمل أَنْ يكونَ اسماً على فُعُل ك عُتُلّ.
وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي: تُسَمَّنُ. وهنل تختصُّ بالإِبل؟ الجمهورُ على ذلك. قال الزمخشري: «والبُدْنُ: جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ بَدَنِها، وهي الإِبِلُ خاصةً؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحق البقرَ بالإِبل حين قال:» البَدَنَةُ عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعة «فجَعَلَ البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابِه، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ». وقيل لا تختصُّ، فقال الليث: البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما يجوز في الهَدْي والأضاحي، ولا تقعُ على الشاة. وقال عطاءٌ وغيرُه: ما أشعر مِنْ ناقة أو بقرةٍ. وقال آخرون: البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر. ويقال للسَّمين من الرجال. وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ.
قوله: ﴿مِّن شَعَائِرِ الله﴾ هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير.
قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ الجملةُ حالٌ: إمَّا من «ها» «جَعَلْناها»، وإمَّا مِنْ شعائر الله. وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في «فيها» هل هو عائدٌ على «البُدْن» أو على شعائر؟ والأولُ قولُ الجمهورِ.
قوله: ﴿صَوَآفَّ﴾ نصبٌ على الحال أي: مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صَوافي» جمعَ صافِيَة أي: خالصةً لوجهِ الله تعالى. وقرأ عمرو بن عبيد كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ فقرأ «صَوافياً». واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناهٍ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: ذكره الزمخشري وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند الوقف. يعني أنه وَقَفَ على «صَوافي» بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ، وهو الذي يُسَمِّيه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم.
والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ ما لا يَنْصَرِفُ.
وقرأ الحسنُ «صَوافٍ» بالكسرِ والتنوين. وتوجيهُها: أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ، فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعويض التنوينِ نحو: «هؤلاء جوارٍ»، ومررت بجوارٍ. وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ كقولهم: «أعْطِ القوسَ بارِيْها» وقولِه:
٣٣٨٩ كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ... أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق
وقوله:
٣٣٩٠ وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه........................................
ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم «صَوافيْ» بياءٍ ساكنةٍ من غيرِ تنوينٍ، نحو: «رأيتُ القاضيْ يا فتى» بسكون الياء. ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه.
وقرأ العبادلة ومجاهدٌ والأعمش «صَوافِنْ» بالنون جمعَ «صَافِنَة» وهي التي تقومُ على ثلاثٍ وطرفِ الرابعة، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ كقوله: ﴿الصافنات الجياد﴾ [ص: ٣١]، وسيأتي، فيكون استعمالُه في الإِبلِ استعارةً.
والوجوبُ: السُّقوطُ. وجَبَتِ الشَمسُ ِأي: سَقَطَتْ. ووجَبَ الجِدَارُ أي: سَقَطَ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا. وقال أوس بن حجر:
٣٣٩١ ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّها... رِ والبدرُ للجبل الواجبِ
قوله: «القانِعَ والمعتَّر» فيهما أقوالٌ. فالقانِعُ: السائل والمُعْتَرُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وقال قومٌ بالعكس. وقال ابن عباس: القانِعُ: المستغني بما أعطيتَه، والمعترُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وعنه أيضاً: القانعُ: المتعفِّفُ، والمعترُّ: السائلُ. وقال بعضُهم: القانِعُ: الراضي بالشيءِ اليسيرِ. مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ. والقَنِعُ: بغير ألفٍ هو السَّائلُ. ذكره أبو البقاء. وقال الزمخشري: «القانِعُ: السَّائلُ. مِنْ قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له. وسألتُه قُنُوْعاً. والمُعْتَرُّ: المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ، أو القانِعُ الراضي. بما عندَه، وبما يعطى، من غيرِ سؤالٍ. مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة. والمعترُّ: المتعرض بالسؤال». انتهى. وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال: قَنِعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل، وقَناعة أي: تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها. وأنشد للشماخ:
٣٣٩٢ لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني... مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ
وقال ابن قتيبة: «المُعْتَرُّ: المتعرِّضُ من غير سؤال. يُقال: عَرَّه/ واعتَرَّه وعَراه واعْتراه أي: أتاه طالباً معروفَه قال:
٣٣٩٣ لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا... لِنَمْنَعَه بالضائعِ المُتَهَضِّمِ
وقوله الآخر:
٣٣٩٤ سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ... إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري ومَجْزَري
وقرأ أبو رجاء» القَنِع «دون ألف. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ أصلَها» القانِع «فَحَذَفَ الألف كما قالوا: مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في: مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط. والثاني: أن القانِعَ هو الراضي باليسير، والقَنِع: السائلُ، كما تقدَّم تقريره، قال الزمخشري:» والقَنِعُ: الراضي لا غير «.
وقرأ الحسن:» والمُعْتري «اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري. وقرأ إسماعيل وتروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً» والمُعْتَرِ «بكسر الراء اجتزاءً بالكسرة عن لامِ الكلمة.
وقُرِىء» المُعْتَرِيَ «بفتح الياء. قال أبو البقاء:» وهو في معناه «أي: في معنى» المعترّ «في قراءة العامَّة.
و [قوله:] ﴿كذلك سَخَّرْنَاهَا﴾ الكافُ نعتُ مصدرٍ أوحالٌ من ذلك المصدرِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).