وقرئت صَلَاةٌ وَمَسَاجِدُ، وقيل إنها مَوْضعُ صَلَواتِ الصَّابِئِين.
وتأويل هذا: لولا أن اللَه - عزَّ وجل - دَفَع بعض الناس بَبَعْض لهُدِّمَ في شريعة كُلِّ نَبيٍّ المَكَانَ الَّذِي كان يُصَلِّي فيه، فَكَانَ لولَا الدفعُ لَهُدِمَ في زمن موسى عليه السلام الكنائس التي كان يصلي فيها في شريعته، وفي زَمَنِ عيسى الصوامع والبِيَعُ، وفي زمن محمد - ﷺ - المساجِدُ.
وقوله.: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ).
أي من أقام شريعة مِن شرائعه، نصر على إقامة ذلك، إلا أنَّهُ لَا يُقام
في شريعة نَبِيٍّ إلَّا ما أتِيَ به ذلك النبي وُينْتَهَى عما نَهَى عَنْهُ (١).
* * *
وقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
(الذين) في موضع نصب على تفسير مَنْ، المعنى وليَنْصُرَنَ اللَّهُ مَنْ
ينصُرُه ثم بين صِفَةَ ناصِريه فقال:
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ).
فَصِفةُ حِزْبِ اللَّه الذينَ يُوحدونَه، إقَامة الصلاة، وإِيتاءُ الزّكاة والأمْر
بالمَعْرُوف والنهى عن المنكر، وهما واجبان كوجوب الصلاة والزكاة
أعنِي الأمرَ بالمعروف والَّنْهِيَ عَنِ المُنْكَر.
* * *
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
ويقرأ أهْلكتُها، المعنى فكيف كانَ نِكير أيْ تم أخَذْتَهم فأبْلَغْتُ أبلغ
الِإنكار.
فأهْلكت قُرى كثيرةً، لأن معنى (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) معنى فكم مِنْ قَرْيةٍ، ومعنى كم من قريةٍ عدد كثير من القُرَى.

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿الذين أُخْرِجُواْ﴾: يجوز أن يكونَ في محلِّ جرٍّ، نعتاً للموصول الأولِ أو بياناً له، أو بدلاً منه، وأن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المدح، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مبتدأ.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ، نحو: «ما زاد إلاَّ ما نقصَ»، «وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ». فلو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان: النصبُ وهو لغةُ الحجاز، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدل نحو: «ما فيها أحدٌ إلاَّ حمارٌ»، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو قلت: «الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا الله» لم يَصحَّ. الثاني: أنه في محلِّ جر بدلاً من «حَقّ» قال الزمخشري: «أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخراجِ والتسييرِ. ومثلُه: ﴿هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله﴾ [المائدة: ٥٩].
وممَّنْ جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ. إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ذلك فقال:»
ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لا يجوزُ إلاَّ حيث سبقه نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ في معنى النفي. وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أو أمراً فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه. ولو قلت: «قام إلاَّ زيدٌ»، و «لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ» لم يجز. ولو قلت في غير القرآن: «أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ» لم يكن كلاماً. هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ﴾ في موضعِ جرٍّ بدلاً من «غير» المضاف إلى «حَقٍّ». وأمَّا إذا كان بدلاً من «حق» كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غايةِ الفسادِ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي «غيراً» فيصير التركيبُ: بغير إلاَّ أَنْ يقولوا، وهذا لا يَصِحُّ، ولو قَدَّرْنا [إلاَّ] ب «غير» كما/ يُقَدَّرُ في النفي في: «ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٍ» فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ التركيبُ: بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللهُ، فتكون قد أضَفْتَ غيراً إلى «غير» وهي هي فيصير: بغير غير، ويَصِحُّّ في «ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ» أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره: بغير موجبٍ سوى التوحيدِ، وهذا تمثيلٌ للصفة جَعَلَ [إلاَّ] بمعنى سِوَى، ويَصِحُّ على الصفةِ فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل.
ويجوز أن تقولَ: «مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ» على الصفة لا على البدل «.
قوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله﴾ قد تقدَّم الخلافُ فيه في البقرة وتوجيهُ القراءتين.
وقرأ»
لَهُدِمَتْ «بالتخفيفِ نافعٌ وابن كثير. والباقون بالتثقيل الدالِّ على التكثيرِ؛ لأنَّ المواضعَ كثيرةٌ متعددةٌ، والقراءةُ الأولى صالحةٌ لهذا المعنى أيضاً.
والعامَّةُ على»
صَلَواتٌ «بفتح الصاد واللام جمعَ صلاةٍ. وقرأ جعفر ابن محمد» وصُلُوات «بضمِّهما. ورُوي عنه أيضاً بكسرِ الصاد وسكونِ اللام. وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام. وأبو العالية بفتح الصادِ وسكونِ اللام. والجحدريُّ أيضاً» وصُلُوْت «بضمِّهما وسكونِ الواو، بعدها تاءٌ مثناةٌ من فوقُ مثلَ: صُلْب وصُلُوب.
والكلبيُّ والضحاكُ كذلك، إلاَّ أنهما أَعْجَما التاءَ بثلاثٍ مِنْ فوقها. والجحدريُّ أيضاً وأبو العاليةِ وأبو رجاءٍ ومجاهدٌ كذلك، إلاَّ أنَّهم جعلوا بعد الثاءِ المثلثة ألفاً فقرؤوا»
صُلُوْثا «ورُوي عن مجاهدٍ في هذه التاءِ المثنَّاةِ مِنْ فوقُ أيضاً. ورُوي عن الجحدريِّ أيضاً» صُلْواث «بضم الصادِ وسكونِ اللامِ وألفٍ بعد الواوِ والثاءِ مثلثةً.
وقرأ عكرمة»
صلويثى «بكسر الصاد وسكون اللام، وبعدها واوٌ مكسورةٌ بعدَها ياءٌ مثنَّاةٌ مِنْ تحتُ بعدها ثاءٌ مثلثةٌ، وحكى ابنُ مجاهد أنه قُرِىءَ» صِلْواث «بكسر الصاد وسكون اللام. بعدها واوٌ، بعدها ألف، بعدها ثاءٌ مثلثةٌ.
وقرأ الجحدري»
وصُلُوب «مثل كُعُوْب بالباء الموحدةِ وهو جمع» صليب «، وفُعُوْل جمعُ فعيل شاذٌّ نحو: ظريف وظروف وأَسِينة وأُسُون، ورُوي عن أبي عمرو» صلواتُ «كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّن، مَنَعه الصرفَ للعلميَّة والعجمة؛ لأنه جعله اسمَ موضعٍ، فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، المشهورُ منها واحدةٌ، وهي هذه الصلاةُ المعهودة.
ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ليَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عليها أي: مواضع صلواتٍ، أو يُضَمَّن»
هُدِّمَتْ «معنى» عُطِّلَتْ «فيكون قَدْراً مشتركاً بين المواضع والأفعال؛ فإنَّ تعطيلَ كلِّ شيءٍ بِحَسبِه. وأخَّر المساجدَ لحُدوثِها في الوجود، أو الانتقالِ إلى الأشرفِ. والصلواتُ في الأمم...... صلاةُ كلِّ مِلَّةٍ بحَسَبِها. وظاهرُ كلام الزمخشري أنها بنفسِها اسمُ مكان فإنه قال:» وسُمِّيَتْ الكنسيةُ صلاةً لأنه يُصَلَّى فيها. وقيل: هي كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ أصلُها بالعبرانيةِ صَلُوثا «. انتهى.
وأمَّا غيرُها من القراءات فقيل: هي سريانيةٌ أو عبرانيةٌ دَخَلَتْ في لسانِ العربِ. ولذلك كَثُر فيها اللغاتُ.
والصَّوامِعُ: جمعُ صَوْمَعَة وهي البناءُ المرتفعُ الحديدُ الأعلى، مِنْ قولِهم رجلٌ أصمعُ، وهو الحديدُ القولِ. ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة. وهي متعبَّد الرهبانِ لأنهم ينفردون. وقيل: متعبَّدُ الصَّابِئين.
والبِيَعُ: جمع بِيْعَة، وهي متعبَّدُ النصارى. وقيل: كنائس إليهود. والأشهر أنَّ الصوامِعَ للرهبانِ والبِيَعَ للنصارى، والصَّلَواتِ لليهود، والمساجدَ للمسلمين.
و ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله﴾ يجوز أَنْ يكونَ صفةً للمواضعِ المتقدمةِ كلِّها، إنْ أَعَدْنا الضميرَ مِنْ»
فيها «عليها، أو صفةً للمساجد فقط، إنْ خَصَصْنا الضميرَ في» فيها «بها، والأولُ أظهر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon