بِأنْ لَا تَعْلُوا عليً أي كتب بترك العُلُو، ويجوز على مَعْنى: ألقِيَ إليَّ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ، وفيها وجه آخر حَسَنٌ على معنى قال لا تَعْلُوا عَلَيَّ.
وفسر سيبويه والخليل " أنَّ " أَنْ، في هذا الموضع في تأويل أي، على معنى أي لاَ تعلوا عَلَيَّ، ومثله من كتاب الله عزَّ وجلَّ:
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا)
وتأويل أي ههنا تأويل القول والتفسير، كما تقول فعل فلان
كذا وكذا، أي إِنَي جوادٌ كاَنَكَ قُلْتَ: يقول إني جوادٌ (١).
* * *
وقوله: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
مَعْنَاه إذا دخلوها عَنْوة عن قتال وغلبة.
(وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).
هو من قول اللَّه عزَّ وجلَّ - واللَّه أعلم - لأنها هي قد ذكرت أنَّهم
يُفْسِدُونَ فليس في تكرير هذا مِنْهَا فائدة.
* * *
وقوله: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
جاء في التفسير أنها أهْدَت سليمان لَبِنَةً ذَهَبٍ في حَرِيرٍ، وقيل
لَبِنُ ذَهِبٍ في حرير.
فأمر سليمانُ بِلِبنَةِ ذهب فطرحت تحت الدَّوابِّ، حيث تبول عليها الدَّوابُّ وتَرُوثُ، فَصَغرَ في أَعْينهم ما جاءوا به إلى سليمان، وقد ذُكِر أن الهَدِيَّة قَدْ كَانَتْ غيرَ هَذَا، إلا أَن قولَ سُلَيْمَانَ: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) مما يدل على أن الهديَّة كانت مالاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).
قوله: ﴿أَلاَّ تَعْلُواْ﴾: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «أنْ» مفسِّرةٌ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في «أنْ» قبلَها في قراءةِ عكرمة، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ: وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه «وَأْتُوْني». والثاني: أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ «كتاب» كأنه قيل: أُلْقِيَ إليَّ: أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ. والثالث: أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو أَنْ لا تَعْلُوا. والرابع: أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي: بأَنْ لا تَعْلُوا، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران. والظاهر أنَّ «لا» في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ. وقد تقدَّم أنَّ «أَنْ» المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً. وقال الشيخ: «وأَنْ في قولِه:» أن لا تَعْلُوا عليَّ «في موضع رفعٍ على البدلِ من» كتاب «. وقيل: في موضعِ نصبٍ على [معنى]: بأن لا تَعْلُوا. وعلى هذين التقديرين تكون» أنْ «ناصبةً للفعل». قلت: وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد «أَنْ» الناصبةِ للمضارع. ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشريِّ فإنه قال: «وقال الزمخشريُّ: وأنْ في» أَنْ لا تَعْلُوا «مفسرةٌ» قال: «فعلى هذه تكون» لا «في» لا تَعْلُوا «للنهي، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه». فقوله: «فعلى هذا» إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا يعني الوجهين المتقدمين ليست للنهي فيهما. ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك.
وقرأ ابن عباس والعقيلي «تَغْلُوا» بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).