أن المذكور أولاً لا يستقيم أَنْ يكونَ مَعْناه التأخِيرُ.
فالمعنى على مذهب أَهْلِ اللُّغة، وَمِنْ نُوح وإبرَاهيم ومُوسَى وعِيسَى ابن مَريمَ
وَمِنْك.
ومثله قوله: (وَاسجدِي وَارْكَعِي مع الراكِعِينَ).
* * *
وقوله: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)
معناه ليسأل المبلِّغين من الرسلِ عَنْ صِدْقِهِمْ في تبليغهم.
وتأويل مَسْألَةِ الرسُلِ - واللَّه يعلم - أنهم صادقون - التبكيت للذين
كفروا بِهِمْ، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، فأجاب فقال:
(سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)، ثم قال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، فتأويله التَبْكيتُ للمُكَذِبِينَ، فعلى هذا (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)
أي للكافرين بالرسُلِ (١).
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩)
هؤلاء الجنودُ هم الأحْزاب، والجنود الذين كانوا: هم قرَيْش
مَعَ أبي سفْيَانَ وغطفَان وبنو قريظة، تحزَّبوا وتظاهروا على حرب رسول
اللَّه - ﷺ - فأرسل اللَّه عليهم ريحاً كفَأَت قذورَهم، أي قَلَبَتْهَا، وقَلَعَتْ فساطيطهم وأظعنتهمْ من مَكانهم، والجنودُ التي لم يروها المَلَائِكَة.
قوله: ﴿لِّيَسْأَلَ﴾: فيها وجهان، أحدُهما: أنها لامُ كي أي: أَخَذْنا ميثاقَهم ليَسْأل المؤمنين عن صدقهم، والكافرين عن تكذيبهم، فاستغنى عن الثانِي بذِكْر مُسَبِّبه وهو قولُه: «وأَعدَّ». والثاني: أنها للعاقبة أي: أَخَذَ الميثاقَ على الأنبياء ليصيرَ الأمرُ إلى كذا. ومفعولُ «صدقِهم» محذوفٌ أي: صِدْقِهم عهدَهم. ويجوز أن يكون «صِدْقِهم» في معنى «تَصْديقهم»، ومفعولُه محذوفٌ أيضاً أي: عن تصديقِهم الأنبياءَ.
قوله: «وأَعَدَّ» يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه «ليَسْألَ الصادقين»؛ إذ التقديرُ: فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين. والثاني: أنه معطوفٌ على «أَخَذْنا» لأنَّ المعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينه لإِثابة المؤمنين وأعَدَّ للكافرين. وقيل: إنه قد حَذَفَ من الثاني ما أثبت مقابلَه في الأول، ومن الأولِ ما أثبتَ مقابلَه في الثاني. والتقدير: ليسألَ الصادقينِ عن صِدْقِهم فأثابهم، ويَسْألَ الكافرين عَمَّا أجابوا به رُسُلَهم، وأعَدَّ لهم عذاباً أليماً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).