يروي قراءة أهل المدينة يذهب إلى أن هذا لم يُضْبَطْ عن أهل المدينة
كما لم يضبط عن أبي عمْرٍو إلى بارِئكم.
وإنَّمَا زعم أن هذا تُخْتَلَسُ فيه الحركة اختلاساً وهي فتحة الخاء، والقول كما قال.
والقراءة الجيِّدَة (يَخَصِّمُونَ) بفتح الخاء، والأصل يَخْتَصِمُونَ.
فطرحت فتحة التاء على الخاء، وأدغمت في الصاد، وكسرُ الخاء جيِّدٌ أيضاً - تكسر الخاء لِسُكُونها وسُكُونِ - الصاد.
وَقُرِئَتْ يختصمون، وهي جيدة أيضاً ومعناها يأخذهم وبعضهم يَخْصِمُ بَعْضاً، ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عِنْدَ أنْفُسهم يخصمون
في الحجة في أنهم لا يبعثون، فتقوم الساعة وهم متشاغلون في متصرفاتهم (١).
* * *
(فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
لا يستطيع أحد أن يوصي في شيء من أَمْرِهِ.
(وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).
لا يلبث إلى أن يصير إلى أهله ومنزله. يموت في مكانه.
* * *
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
الصور كما جاء في التفسير القرن الذي ينفُخ فيه إسْرافيلُ.
وقد قال أَبُو عُبَيدة: إنَّ الصورَ جمع صُورَة، وصورة جمعها صور.
كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)
وما قرأ أحد أحْسنَ صُورَكُمْ وَلَا قرأ أحد: وَنُفِخَ في الصُّوَرِ من وجه يثبُتُ.
والأجداث القبور، واحدها جَدَثٌ، وَيَنْسِلُونَ: يخرجون بسرعة.
* * *
وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
هذا وقف التمام، وهذا قول المشركين (٢).

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿يَخِصِّمُونَ﴾: قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ. والمعنى: يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً، فالمفعولُ محذوفٌ. وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد. ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ. والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ. والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ: يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ، والباقون حَذَفُوا حركتَها، فالتقى ساكنان لذلك، فكسروا أوَّلَهما، فهذه أربعُ قراءاتٍ، قُرِئ بها في المشهور.
ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ. والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما. وقرأ جماعةٌ «يِخِصِّمُون» بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا. وقرأ أُبَيٌّ «يَخْتَصِمُون» على الأصل. قال الشيخُ: «ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم».
قلت: هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ في البقرةِ [الآية: ٢٠]، و ﴿لاَّ يهدي﴾ في يونس [الآية: ٣٥].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿ياويلنا﴾: العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ. وهو «وَيْل» مضافٌ لِما بعده. ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ «وَيْ» كلمةٌ برأسِها. و «لنا» جارٌّ ومجرور «. انتهى. ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا. وابن أبي ليلى:» يا وَيْلتنا «بتاء التأنيث، وعنه أيضاً» يا ويْلتا «بإبدال الياءِ ألفاً. وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول: يا ويلتي.
والعامَّةُ على فتح ميم»
مَنْ و «بَعَثَنا» فعلاً ماضياً خبراً ل «مَنْ» الاستفهامية قبلَه. وابن عباس والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر. و «بَعْثِنا» مصدرٌ مجرور ب مِنْ. ف «مِنْ» الأولى تتعلَّق بالوَيْل، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث.
والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي: مِنْ رُقادِنا، وأن يكونَ مكاناً، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ. والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً.
قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ﴾ في «هذا» وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه. ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله «مِنْ مَرْقَدِنا». وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة: إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى، أو مِنْ قولِ الملائكةِ. والثاني: أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول. والثاني من الوجهين الأولين: «هذا» صفةٌ ل «مَرْقَدِنا» و «ما وَعَد» منقطعٌ عَمَّا قبله.
ثم في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم. وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا وَعْدُ الرحمن. وقد تقدَّم لك أولَ الكهف: أنَّ حَفْصاً يقف على «مَرْقَدنا» وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل «مَرْقَدِنا». وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه. و «ما» يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه. ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي: وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون. والأصل: صَدَقَنا فيه. ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو «صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّه. وتقدَّم قراءتا «صيحة واحدة» نصباً ورفعاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon