وقوله: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨)
ويقرأ واللَّيْسَعَ وَذَا الكِفْلِ.
وكان تكفلَ بعمل رَجُل صالح. يقال إنه كان يصلي ذلك الرجل في كل يوم مائة صلاة فتُوُفِّيَ الرجل الصالح فتكفل ذو الكفل بعمله، فكان يعمل عمله، ويقال إن ذا الكفل تكفَّل بأمْرِ أَنْبِيَاءَ فخلَّصهم من القتل فسُمِّيَ ذا الكِفْلِ.
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ).
المعنى وكل هؤلاء المذكورين من الأخيار.
والأخيار جمع خيِّر وأَخْيارٌ مثل ميِّت وأموات.
* * *
(هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
معناه - واللَّه - أعلم - هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أَبداً، وإن لهم
مع ذلك لَحُسْنَ مآبٍ أي لحسن مَرْجع.
يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة اللَّه.
ثم بين كيف حسن ذلك المرجعْ فقال:
* * *
(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠)
(جَنَّاتِ) بدل من (لَحُسْنَ مَآبٍ)
ومعنى مفتحة لهم الأبواب أي منها.
وقال بعضهم: مُفَتحَةً لهم أبْوَابُها والمعنى وَاحِد، إلا أن على تقدير العَرَبيةِ
" الأبْوابُ مِنْهَا " أجودُ من أَنْ تجعل الألف واللام وبدلًا من الهاء والألف. لأن معنى الألف واللام ليس معنى الهاء والألف في شيء.
لأن الهاء والألف اسم، والألف واللام دخلتا للتعريف، ولا يبدل حرف جاء لمعنى من اسم ولا ينوب عنه. هذا محال (١).
* * *
(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢)

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: العامةُ على نصب «جنات» بدلاً من «حُسْنَ مَآب» سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس. ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً. وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] ويجوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ «جناتِ عَدْنٍ» بإضمارِ فِعْلٍ. و «مُفَتَّحةً» حالٌ مِنْ «جنات عدن» أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً. وقال الزمخشري: «حالٌ. والعاملُ فيها ما في» للمتقين «مِنْ معنى الفعلِ» انتهى. وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/: «مُتَّكئين» تقتضي مَنْعَ «مُفَتَّحة» أَنْ تكونَ حالاً، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ. وقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ» متكئين «حالاً مِنْ» للمتقين «لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال» وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل «مُفَتَّحةً» حالاً من «للمتقين» كما ذكره الزمخشري. إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك: «إن لهندٍ مالاً قائمةً». وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ: فإنَّ «للمتقين» لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى، وإلاَّ فقد أخبر عن «حُسْن مآب» بأنَّه لهم. وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي: يَدْخلونها مفتحةً.
قوله: «الأبواب» في ارتفاعِها وجهان، أحدهما: - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣]. واعْتُرِضَ على هذا بأن «مُفتَحةً»: إمَّا حالٌ، وإمَّا نعتٌ ل «جنات»، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين، أحدهما: قولُ البصريين: وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه: الأبوابُ منها. والثاني: أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ: أبوابُها. وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا. والوجهان جاريان في قولِه: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١]. الثاني: أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في «مُفَتَّحَةً» العائدِ على «جنات» وهو قولُ الفارسيِّ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك. واعْتُرض على هذا: بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم. ورَجَّح بعضُهم الأولَ: بأنَّ فيه إضماراً واحداً، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال: «والأبواب بدلٌ مِن الضمير في» مُفَتَّحَةً «أي: مفتحةً هي الأبواب كقولك: ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال» فقوله: «بدلُ الاشتمال» إنما يعني به الأبواب، لأنَّ الأبواب قد يُقال: إنها ليسَتْ بعضَ الجنات، و «أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ» فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ﴾ برفعهما: إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي جناتٌ، هي مفتحةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon