ومن رفع فبالابتداء ويجعل الأمر في موضع خبر الابتداء، مثل
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا).
وقيل إن معنى (غساق) الشديدُ البرْدِ الذي يُحْرِقُ من بَرْدِه، وقيل إن
الغساقَ ما يغسق من جلود أهل النار.
ولو قطرت منه قطرة في المشرقِ لِأنْتَنَتْ أهل المغرب.
وكذلك لو سقطت في المغرب (١).
* * *
(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)
وَيُقْرأ (وأُخَرُ) (وَآخَرُ) عطف على قوله (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ).
أي وعَذَابٌ آخَرُ مِنْ شَكْلِه - يقول مثل ذلك الأول.
ومن قرأ وأُخرُ، فالمعنى وأنواع أُخَر من شكله.
لأن قوله: (أزواج) معناه أنواع.
* * *
(هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (٥٩)
الفوج هم تُبَّاعُ الرؤسَاءِ وَأَصْحابهم في الضلالة
وقيل لهم: (لَا مَرْحَبًا) مَنْصُوبٌ كقولك رَحُبَتْ بِلَادُكَ مرحبا، وصَادفْتَ مَرْحَباً، فأدْخَلْتَ (لا) على ذَلِكَ المعنى (٢).
* * *
(قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠)
هذا قول الأتْباعِ للرؤساء.
* * *
(قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١)
أي زِدْه على عذابه عذاباً آخر.
ودليل هذا قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ)
وَمعنى صعْفين مَعْنَى فِزده عذاباً ضِعْفاً.

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾: في «هذا» أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، وخبرُه «حميمٌ وغَسَّاقٌ». وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]، أو يكون المعنى: هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن، ويكون قولُه: «فَلْيَذُوْقوه» جملةً اعتراضيةً. الثاني: أَنْ يكونَ «هذا» منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي: لِيَذُوقوا هذا.
وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠]، يعني على الاشتغال. والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم. و «حميمٌ» على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي: منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله:
٣٨٧٤ حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ... وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ
أي: منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود. الثالث: أَنْ يكونَ «هذا» مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: هذا كما ذُكِر، أو هذا للطاغين. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا، ثم استأنف أمراً فقال: فَلْيذوقوه. الخامس: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه «فَلْيذوقوه» وهو رأيُ الأخفشِ. ومنه:
٣٨٧٥ وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ...........................
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨] / وقرأ الأخَوان وحفصٌ «غَسَّاقٌ» بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون، وخَفَّفه الباقون فيهما. فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء. ومِنْ ورودِه في الأسماء: الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي: ذي غَسَقٍ. وقال أبو البقاء: «أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل». قلت: وهذا غيرُ مَعْروفٍ. والغَسَقُ: السَّيَلانُ. يقال: غَسَقَتْ عينُه أي: سالَتْ. وفي التفسير: أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم. وقيل: غَسَق أي امتلأ. ومنه: غَسَقَتْ عينُه أي: امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه. ومنه قيل لليلِ: غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار. وقيل: الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة، ومنه قيل لليل: «غاسِق». ويقال للقمر: غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى:
﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ﴾ [الفلق: ٣]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿مُّقْتَحِمٌ﴾: مفعولُه محذوفٌ أي: مقتحِمٌ النارَ. والاقتحام: الدخولُ في الشيء بشدَّة، والقُحْمَةُ: الشدةُ. وقال الراغب: الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ. ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي: توغَّل به ما يُخافُ منه/. والمقاحيم: الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب «.
قوله:»
معكم «يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُقْتَحِم «. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى «، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟
وقوله:»
هذا فَوْجٌ «إلى قوله:» النار «يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ، ويجوز أَنْ يكونَ» هذا فَوْجٌ «مِنْ كلامِ الملائكة، والباقي من كلام الرؤساء، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال: بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم.
قوله: ﴿لاَ مَرْحَباً﴾ في»
مَرْحباً «وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي: لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ. قاله أبو البقاء أي: لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً. ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم، وقوله:» بهم «بيانٌ للمدعُوِّ عليه. والثاني: أنها حاليةٌ. وقد يُعْتَرَضُ عليه: بأنه دعاءٌ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً. والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي: مَقُولاً لهم لا مَرْحباً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon