وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨)
ارتفع (الظَّالِمُونَ) بالابتداء.
وقوله: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١).
الفصل بين هذا والأول أن أَعد لهم فِعل فنصب (الظالمين) بفعل مضمر يفسره
ما ظهر، المعنى وَأوعد الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً.
* * *
وقوله: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا).
أي خلق الذكَرَ والأنْثَى مِنَ الحَيَوانِ كُلِّهِ.
وقوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ).
أي يُكَثركم بِجَعْلِهِ منكم وَمنَ الأنْعَامِ أزواجاً.
وقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
هذه الكاف مؤكَدة، والمعنى ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يقال:
المعنى مثلَ مثلِهِ شيء، لأن من قال هذا فقد أثبت المثل للَّهِ تعالى عن ذلك
عُلُوًّا كَبيراً (١).
* * *
قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
روي في التفسير أن أول من أتى بتحريم البنات والأخَوَات والأمهات نوح.
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى).
أي وشرع لكم ما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى.
وقوله عزَّ وَجَل: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
قوله: ﴿فَاطِرُ﴾: العامَّةُ على رفعِه خبراً ل «ذلكم» أو نعتاً ل «ربِّي» على تَمَحُّضِ إضافتِه. و «عليه توكَّلْتُ» معترضٌ على هذا، أو مبتدأ، وخبرُه «جَعَلَ لكم» أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو. وزيد بن علي: «فاطرِ» بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله: «إلى اللَّهِ»، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في «عليه» أو «إليه».
وقال مكيٌّ: «وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء». وقال غيرُه: على المدح. ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في «عليه». قلت: قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي. وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً.
قوله: «يَذْرَؤُكُمْ فيه» يجوزُ أَنْ تكونَ «في» على بابِها. والمعنى: يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ. والضميرُ في «يَذرَؤُكم» للمخاطبين والأنعامِ. وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ. قال الزمخشري: «وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن». قال الشيخ: «وهو اصطلاحٌ غريبٌ، ويعني: أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا». ثم قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به. قلت: جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ. ألا تَراك تقول: للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]. والثاني: أنها للسببية كالباء أي: يُكَثِّرُكم بسبِبه. والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ».
قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدُها - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس، و «شيءٌ» اسمُها. والتقدير: ليس شيءٌ مثلَه. قالوا: ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ. وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف: ليس مثلَ مثلِه شيءٌ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً، لا مثلَ لذلك المَثَلِ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك.
وقال أبو البقاء: «ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ المعنى: أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ. وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ». قلت: وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ.
والثاني: أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى: ﴿بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧]. قال الطبري: «كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله:
٣٩٦٦ وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ...
وقولِ الآخر:
٣٩٦٧ - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ... وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ. وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ.
الثالث: أنَّ العربَ تقولُ «مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا» يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها. ومنه قول الشاعر:
٣٩٦٨ على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه... وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا
وقال أوس بن حجر:
٣٩٦٩ ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ... خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ
وقال آخر:
٣٩٧٠ سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ... فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة: «العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول: مثلي لا يُقال له هذا، أي: أنا لا يُقال لي». قيل: و [نظيرُ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك: فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤].
الرابع: أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ، كقولِه تعالى: ﴿مَّثَلُ الجنة﴾ [الرعد: ٣٥] فيكونُ المعنى: ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).