ما لم يسم فَاعِلُه، فيكون المعنى على أنه لما قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) كأنَّه قيل: مَن يُسَبِّحُ الله فقيل يُسَبِّحُ رِجَال كما قال الشاعر:
لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ... ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ
(والآصال): واحدها أُصُل، وهي العَشَايَا (١).
* * *
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧)
ومعنى: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
أي لا يشغلهم أَمر عن ذَلِكَ.
ويروى أن ابن مَسْعُودٍ رأى قوماً من أَهْل السوقِ، وقد نُودِيَ بالصَّلَاةِ
فتركوا بِيَاعاتِهِمْ ونَهضُوا إلَى الصَّلاةِ، فقال: هؤلاء من الذين قال اللَّه - عز وجل - فيهم، (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وقوله: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)
الكلام أقمت الصلاة إقَامَةً، وأصلها أقَمْتُ إقْوامَاً، ولكن قُلِبَت الوَاوَ
أَيضاً فاجتمعت ألفان، فحذفت إحداهما لالْتِقَاءِ السَّاكنين، فبقي أَقَمْتُ الصلاة إقامَةً وأدخِلَتِ الهاء عِوَضاً من المَحْذُوفِ، وقامت الإضافة ههنا في
التعويض مقام الهاء المحذوفة.
وهذا إجماع من النحويين.
وقوله: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
ويجوز تَقلَّبُ فيه القلوب والأبْصَارُ، في غير القرآنِ، ولا يجوز في
القران " تَقَلَّبُ، لأن القراءة سنة لا تخالَفُ وإن جاز في العربية ذَلِكَ.

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿يُسَبِّحُ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة. والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه، والذي يليه أولى. و «رجالٌ» على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل: يُسَبِّحُه رجالٌ. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر:
لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ
كأنه قيل: مَنْ يبكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ. إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً، منهم مَنْ جَوَّزَه، ومنهم مَنْ مَنعه. والوجهُ الثاني في البيت: أنَّ «يَزيدُ» منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي: يا يزيد، وهو ضعيف جداً.
والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبِّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال.
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ «رجال» فلا يُوْقَفُ على الآصال.
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة «تُسَبِّح» بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم: «صِيْد عليه يومان» أي: وَحْشُها. وخَرَّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي: تُسَبَّح التسبيحةُ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً ﴿ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤] أي: ليجزى الجزاءُ قوماً، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح. اهـ (الدُّرُّ المصُون)


الصفحة التالية
Icon