(وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا).
ويقرأ (سُرُجاً) ويجوز سُرْجاً بتسكين الراء مثل رُسُل ورُسْل، فمن قَرَأَ
سِراجاً عَنَى الشمْسَ كما قال تعالى: (وَجَعَلَ الشَمْسَ سِراجاً).
ومن قرأ (سُرُجاً) أراد الشمس والكَوَاكِبَ العِظَامَ مَعَها (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (٦٢)
ويقرأ (لمن أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ).
قال الحسن: من فاته عَمَلُه من التَذكرِ والشكْرِ كان له في الليل مُسْتَعْتبٌ، ومن فَاتَهُ بالليل كان له في النهار مُسْتَعْتَبٌ.
وقال أهلُ اللغة خِلفة يجيء هذا في أثر هذا، وأنشدوا قول زُهَيْرٍ:
بها العين والأرام يمشين خِلفة... وأطلاؤها يَنْهَضْنَ من كل مَجْثَمِ
وجاء أيضاً في التفسيرِ خلفة مختلفانِ كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا) الآية.
* * *
وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣)
أي يمشون بِسَكِينَةٍ وَوَقارٍ وَحِلْمٍ.
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).
أي نتسلم منكم سلاماً لا نُجَاهِلُكم، كأنَّهم قالوا تَسَلُّماً مِنْكُمْ (٢).
و" عبادُ "
قوله: ﴿سِرَاجاً﴾: قرأ الجمهورُ بالإِفراد، والمرادُ به الشمسُ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه. والأخَوان «سُرُجاً» بضمتين جمعاً، نحو حُمُر في حِمار. وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات. وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] بعد انتظامِهما في الملائكةِ. وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً. والحسن والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و «قُمْراً» بضمةٍ وسكونٍ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْراء. والمعنى: وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا، فحذف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب «منيرا». ولو لم يَعْتَبِرْه لقال: منيرةً، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان:
٣٤٩١ يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ... بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
الأصل: ماء بَرَدَى، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ: «يُصَفِّقُ» بالياءِ مِنْ تحتُ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ «تُصَفِّقُ» بالتاء مِنْ فوقُ. على أنَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه:
٣٤٩٢......................... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها
مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿سَلاَماً﴾: يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: نُسَلِّم سَلاماً، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم، فأُقيم السِّلام مُقامَ التسليمِ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي: قالُوا هذا اللفظَ. قال الزمخشري: أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأذى. والمرادُ سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله:
٣٤٩٥ ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا... فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ، ثم نُسِخَ ذلك، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).