هذا كقوله تعالى: (قطوفها دانية).
وقيل كلما أرادوا أنْ يَقْطَعُوا شيئاً منها ذُلِّلَ لَهُمْ، ودنا منهم قُعُوداً كانوا أَوْ مُضْطَجِعينَ أَوْ قِيَاماً.
* * *
(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ)
قرئت غير مصروفة، وهذا الاختيار عند النحويين البصريين لأنَّ كل
جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف.
وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب.
ومَن قرأ (قواريراً) فصرف الأول فلأنَّهُ رأسُ آية، وترك صرف الثاني لأنه
ليس بآخر آية، ومن صرف الثاني أتبْعَ اللَّفْظَ اللفظ، لأن العرب رُبَّما قَلَبَتْ إعراب الشيء ليتبع اللفظ اللفظ، فيقولون: هذا حُجْر ضَبِّ خَرِبٍ، وإنما الخرب من نعت الحُجْرِ، فكيف بما يترك صرفه، وجميع ماَ يترك صرفه يجوز صرفه في الشِعْرِ.
* * *
ومعنى (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦)
أصل القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم اللَّهُ أن فضل تلك القوارير أن أَصْلَها مِنْ فِضةٍ يرى من خارجها مَا فِي دَاخِلها
ومعنى: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا).
أَي جُعِلَت بكون الِإناء عَلى قَدْرِ ما يحتاجون إليه وُيرِيدُونَهُ.
وَقُرِئَتْ (قُدِّرُوها تَقْدِيراً). أي جعلت لهم على قدر إرادتهم (١).
* * *
(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧)
أي يجمع طعم الزنجبيل، والعرب تصف الزنجبيل، وهو مستطاب
عندها جدًّا
قال الشاعر:
كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ... باتا بِفيها وأَرْياً مَشُورا
فجائز أن يكون طعم الزنجبيل فيها، وجائز أن يكون مزاجها وَلَا غائِلَةَ لَهُ
كما قلنا في الكافور.

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ﴾: اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في ﴿سَلاَسِلَ﴾. واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً، والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر. الثانيةُ: مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما، والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. الرابعة: تنوينُ الأولِ دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ.
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل. والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة.
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدَّم في «سلاسل» وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ. وتقدَّم الكلامُ على «قوارير» في سورةِ النمل ولله الحمدُ.
وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ» يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقولِه:
٤٤٤٨ يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ... وفي انتصابِ «قوارير» وجهان، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنها حالٌ، و «كان» تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو البقاء: «وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش» قواريرُ «بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و» مِنْ فضة «صفةٌ ل» قوارير «.
قوله: ﴿قَدَّرُوهَا﴾ صفةٌ ل»
قواريرَ «. والواو في» قَدَّروها «فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا.
والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قولِه تعالى: «ويُطافُ»
والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً.
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ «قُدِّرُوْها» مبنياً للمفعول. وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: «كأنَّ اللفظ: قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قولِه: ﴿لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة﴾ [القصص: ٧٦] ومثلُ قولِ العرب:» إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء «. وقال الزمخشري:» ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ [الشيءَ] وقَدَرَنيه فلان، إذا جعلك قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا «. وقال أبو حاتم:» قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم «ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال:» فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان: «قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها» ثم حُذِفَ «على» فصار: «قَدْرُ رِيِّهم» على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، ثم حُذِف «قَدْرُ» فصار «رِيُّهم» ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل «. قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه.
وقال الشيخ:»
والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة: «قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً» فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ «مِنْ» ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار: «قُدِّرُوْها» فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل «. قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon