ومن الناس من يجعل " هم " توكيداً لما في كالوا، فيجوز أن تقف فتقول: وإذا كالوا، والاختيار أن تكون " هم " في موضع نصب، بمعنى كالوا لهم. ولو كانت على معنى كالوا، ثم جاءت " هم " توكيداً، لكانَ في المصحف ألف مثبْة قَبلَ (همْ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥)
يعنى يوم القيامة، أي إنهم لو ظنوا أنهم يبعثون ما نَقصوا في الكيل
والوزن.
* * *
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)
(يَوْمَ) منصوب بقوله (مَبْعُوثُونَ)
المعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة.
ولو قرئت " يَوْمِ يقوم الناس "
بكسر يوم لكان جَيِّداً على معنى ليوم يقوم الناس.
ولو قرئت بالرفع لَكَانَ جَيِّداً يومُ يقوم الناسُ، على معنى ذلك يوم يقوم الناس، ولا يجوز القراءة إلا بما قرأ به القراء
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) - بالنصب - لأن القراءة سنة، ولا يجوز أن تخالف
بما يجوز في العربية.
* * *
وقوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧)
(كَلَّا) رَدعٌ وتنبيه.
المعنى ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا عَنْ ذَلِكَ
وقوله: (فِي سِجِّينٍ) زعم أهل اللغة أن سِجِّينَ فِعِّيل من السجْنِ، المعنى
كتابهم في حبس، جعل ذلك دَلالة على خساسة مَنْزِلَتِهِمْ.
وقيل (فِي سِجِّينٍ) في حسابٍ، وفِي سِجِّينٍ في حجر من الأرْضِ السابِعَةِ (١).
* * *
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨)
أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وَلَا قَوْمُك، ثم فسر فقال:
* * *
(كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩)
أي مكتوب.

(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾: اختلفوا في نون «سِجِّين». فقيل: هي أصليةٌ. اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ، وهو بناءُ مبالغةٍ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر. وقيل: بل هي بدلٌ من اللامِ، والأصلُ: سِجِّيْل، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ. واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسمُ موضعٍ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم. وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ، وإذا كان اسمَ مكانٍ، فقوله «كتابٌ مَرْقُوْمٌ»: إمَّا بدلٌ منه، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل: التقدير: هو مَحَلُّ كتابٍ، ثم حُذِفَ المضافُ. وقيل: التقديرُ: وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ، إمَّا مِنْ الأولِ، وإمَّا مِنْ الثاني: وأمَّا إذا قُلْنا: إنه اسمٌ ل «كتاب» فلا إشكال.
وقال ابن عطية: «مَنْ قال: إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ، على أنه خبرُ» إنّ «والظرفُ الذي هو» لفي سِجِّين «مُلْغَى، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، التقدير: هو كتابٌ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟» انتهى، وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةَ؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى. لا يقال: اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو «كتابٌ» عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو «مرقوم» لامتنعَ ذلك. أمَّا مَنْعُ عملِ «كتابٌ» فلأنَّه موصوف، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل. وأمَّا امتناعُ عملِ «مرقومٌ» فلأنَّه صفةٌ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها. وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه، وهذا ليس معمولاً للخبرِ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ، وليس بملغى. وأمَّا قولُه ثانياً «ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو» فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب «كتابٌ».
وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب» كتاب مرقوم «فكأنه قيل: إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت:» سِجِّين «كتابٌ جامعٌ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى: أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم» انتهى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon