وقوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (٢٣)
كما قال: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ).
وقيل في التفسير جيء بجهنم تقَادُ بألف زِمَام كل زمام في أيدي سبعين ألف مَلَكٍ.
* * *
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ)
يَوْمَئِذٍ يُظْهِر الإنْسَانُ التَّوْبَةَ.
(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)
أي ومن أين له الذكرى، أي التوبة.
* * *
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤)
أي لدار الآخرة التي لَا مَوْتَ فِيهَا.
* * *
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥)
(لَا يُعَذَّبُ)
المعنى لَا يُعذًبَ عَذَابَ هذا الكافِرِ
وعذاب هذا الصِّنْفَ مِنَ الكفار أحَدٌ.
* * *
(وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)
ومن قرأ (لَا يُعَذِّبُ)، وهو أكثر القراءة، فالمعنى لا يَتَوَلَّى يوم القيامَةِ
عذاب اللَّه أَحَدٌ، الملك يومئذ لِله وَحْدَه - جلَّ وعزَّ.
وقيل لا يعذب عَذَابه أَحَدٌ، أي عذاب اللَّه أَحَدٌ، فعلى هذا لا يُعَذِبُ أحَدٌ في الدنيا عَذَاب اللَّه في الآخرة (١).
* * *
وقوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)
" أيُّ " تؤنث إذا دعوت بِها مؤنًثاً وَتذَكَّرُ، تقول: يَا أَيَّتُهَا المرأة.
وإن شئت يَا أَيُّهَا المرْأةُ، فمن ذكَره فلأنَّ (أَيَّا) مبْهَمَةٌ ومن أنَّث فَلأنَّها مع إبْهَامِهَا قد لزمها الإِعراب والإِضافة.
وزعم سيبويه أن بعض العرب تقول كُلتُهُنَّ في كلُهُنَّ.
والمطمئنة التي اطمأنت بالإيمان وأخبتت إلَى رَبِّهَا.
* * *
(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨)
قوله: ﴿لا يُعَذِّبُ﴾: قرأ الكسائي «لا يُعَذَّبُ» و «لا يُوْثَقُ» مبنيين للمفعولِ. والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل. فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى «أحد» وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى. وأمَّا عذابه ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى، ومضافَيْنِ للمفعول، والضميرُ للإِنسانِ، ويكون «عذاب» واقعاً موقع تَعْذيب. والمعنى: لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه، لكفرِه وعنادِه، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء. إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ، وعن الكوفيين الجوازُ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن. ومن الإِعمال قولُه:
٤٥٧١ أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني... وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا
ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ «المِئَة» بفعلٍ مضمر. وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر:
٤٥٧٢....................... فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا
وقيل: المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] قاله الزمخشري. وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه. /
والضميرُ في «عذابَه» و «وَثاقَه» يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى، بمعنى: أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ، أي: إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ، كذا قاله أبو عبد الله، وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ «يومئذٍ» معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه، إلاَّ أن يُقالَ: يُتَوَسَّعُ فيه.
وقيل: المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك. وقيل: المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه. ورُدَّ هذا: بأنَّ «لا» إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ، وبأنَّ «يومَئذٍ» المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا. وقيل: المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه. ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى: لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ، أو يكونُ المعنى: لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [فاطر: ١٨]. وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما «وِثاقَه» بكسر الواو.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).