وأخبرني بقيامه بسماع الأشرطة عدة مرات أولاً، ثم عهد بنسخها ثانياً، ثم قام بتوثيق المعلومات ثالثاً. وهي معلومات غزيرة ومتنوعة، مما يتطلب الوقت الكثير والبحث المتواصل، والتأمل والتحري، مما يكلف المرء عناءً هو عند طلبة العلم من أشهى المتع، كما قال الشاعر:

وتَمَايُلي طَرَباً لحلٍّ عَوِيْصةٍ في الدرسِ أَشْهى من مُدَامَةِ سَاقِ (١)
وكما قال الشيخ:
أَبِيْتُ مُفكراً فيها فَتَضْحَى لفَهْمِ الفَدْمِ خَافِضَةَ الجَنَاحِ (٢)
وكان الشيخ (رحمه الله) يوظف جميع معارفه لفهم القرآن.
وقد كفاني مؤنة ذلك الشيخ خالد. وقد أخذ القوس باريها.
ونحن طلبةَ العلم وتلاميذ الشيخ (رحمه الله)، مَنْ منا يستطيع أن يقوم بخدمة كتبه أو أشرطته أو محاضراته على الوجه الصحيح، فلا ينبغي أن يتوانى في القيام بذلك، والعلم رَحِمٌ بين أهله.
رحمة الله على الشيخ، وجزى الله الشيخ خالداً بالخير. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والسلام.
عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي
٢٠/ ٢/١٤١٨ هـ
(١) البيت للشافعي، وهو في ديوانه ص ٦٤.
(٢) البيت ضمن أبيات للشيخ أوردها الشيخ عطية (رحمه الله) في ترجمته (وهي مطبوعة في آخر الأضواء ص ٣١).

﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُوْنَ﴾ لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فيها الأطوارَ التي مَرَّ بالإنسان عليها إلى حالتِه هذه؛ حيث قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)﴾ [المؤمنون: الآيات ١٢ - ١٦].
وعلى هذا: فالمُستقَر: هو القرارُ المكينُ الذي يَجْعَلُ اللَّهُ فيه الإنسانَ في رحمِ أُمِّهِ بعدَ أن خَلَقَ آدمَ من ترابٍ، كما قال في آيةِ (قد أفلح) هذه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (١٣)﴾ يعني: رَحِمَ أُمِّهِ. وهذا نبهنا الله عليه، وَحَذَّرَنَا أن ننصرفَ عن هذا، وأن نغفلَ عنه؛ لأنكم كُلَّكُمْ تعلمونَ أن الواحدَ منا لم يدخل رحمَ أمه مُخَطَّطًا، وليس فيه يَدٌ ولا رِجْلٌ ولا رأس ولا عَيْنٌ، بل يدخل رحمَ أمه وهو نطفةٌ من مَنِيٍّ، ثم إن الخالقَ (جل وعلا) ينقلُ بقدرتِه تلك النطفةَ فيجعلُها دَمًا جَامِدًا، وهو الْمُعَبَّرُ عنه بـ (العلقةِ)، ثم يقلبُ ذلك الدمَ مضغةَ لَحْمٍ ليس فيها تخطيطٌ، ولا رِجْلٍ ولا يَدٍ، ثم إنه يقلبُ تلك المضغةَ هيكلَ عظامٍ، ويرتبُ هذه العظامَ بعضَها ببعضٍ هذا الترتيبَ المُحْكَمَ المتقنَ الذي يجدُه الواحدُ منكم، فيرتبُ السُّلاَمِيَّاتِ في السُّلامياتِ، والمفاصلَ بالمفاصلِ، وَفَقَارَى الظَّهْرِ بِفَقَارَى الظَّهْرِ، ويجعلُ هذه العظامَ على أُمِّ الدماغِ، فيجعلُ له دماغَه في هذا الغلافِ الذي هو أُمُّ الدماغِ، ويفتحُ في وجهِه العينين، ويصبغُ بعضَهما بصبغٍ أسودَ وبعضهما بصبغٍ أبيضَ، ويزينها بِشَعْرِ الحواجبِ والجفونِ، ويجعلُ فيهما حاسةَ البصرِ، ويفتحُ له الأنفَ، ويجعل فيه حاسةَ الشَّمِّ، ويفتحُ له الفمَ، ويجعلُ فيه
بوحيه صعق أهل السماوات من عظمة كلام رب العالمين (جل وعلا) كما جاء مبيناً في الأحاديث الصحيحة (١)، وأول من يرفع رأسه منهم جبريل، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. فيسمعه جبريل من كلام رب العالمين، يتكلم به الله على الوجه اللائق بكماله وجلاله، المخالف لكلام خلقه من جميع الجهات، ثم يأتي جبريل فيكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأنواع الوحي بَيَّنَهَا النبي ﷺ في الأحاديث بكثرة.
ولما كان هذا القرآن مكتوباً في اللوح المحفوظ، وفي الكتب عند الملائكة سُمِّي الكِتَاب. وقال الله فيه هنا: ﴿كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيكَ﴾ والكتاب (فِعَال) بمعنى (مفعول)، أي: مكتوب، وإتيان (الفِعَال) بمعنى (المفعول) مسموع في كلام العرب وليس قياساً مُطَّرِداً، وتوجد في العربية منه أوزان معروفة، ككتاب بمعنى: مكتوب، وإله بمعنى: مألوه، أي: معبود، ولباس بمعنى: ملبوس، وإمام بمعنى: مؤتم به. فكلها (فِعَال) بمعنى اسم المفعول.
وأصل مادة الكاف والتاء والباء (كتب) في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناها الضم والجمع (٢)، فكل شيء ضممت بعض أجزائه إلى بعض فقد كَتَبْتَهُ، ومنه قيل للكبكبة من الجيش: (كتيبة) لأنها طائفة من الجيش جُمع بعض أطرافها إلى
_________
(١) من حديث النواس بن سمعان، وابن مسعود، وأبي هريرة مرفوعاً إلى النبي ﷺ وقد جاء عن ابن عباس، والضحاك، والشعبي مختصراً. كما جاء عن ابن مسعود موقوفاً. وقد خرجت جميع هذه الروايات في الدراسة التي وضعتها على مناهل العرفان (١/ ٢٥٣ - ٢٥٤)، فراجعه إن شئت.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
أليسوا صنعة من صنائعه؟ بلى هم صنعة من صنائعه ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: آية ٨٨]، ومعلوم أن الصنعة لا تشبه صانعها بحال، هذا أصل التوحيد الأعظم في آيات الصفات، وأساسها الأكبر، وهو تنزيه رب العالمين تنزيهًا كاملاً تامًّا لائقًا بكماله وجلاله عن مشابهته لشيء من صفات خلقه أو ذواتهم أو أفعالهم، وهذا الأصل الأعظم نصَّ الله عليه في قوله:... ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١] ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾ [الإخلاص: آية ٤] ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الأَمْثَالَ﴾ [النمل: آية ٧٤] ونحو ذلك من الآيات.
الأساس الثاني: هو -أيها الإخوان- إذا حققتم هذا الأصل الأعظم الذي هو التنْزيه، فالأصل الثاني: هو الإيمان بما جاء عن الله في كتابه المنزل، والإيمان بما جاء عن رسول الله ﷺ في سنته الصحيحة إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه؛ لأنه لا يصف الله أعلم باللهِ مِنَ اللهِ ﴿أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة: آية ١٤٠] ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله ﷺ الذي قال فيه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: الآيتان ٣، ٤].
هذان الأساسان العظيمان اللذان هما: تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة خلقه.
والثاني: تصديق الله والإيمان بما مدح به نفسه إيمانًا مبنيًّا على أساس التنزيه.
وهذان الأصلان العظيمان أيها الإخوان لم أقلهما لكم من تلقاء نفسي لا، لا، وكلا، وإنما بينتهما لكم على ضوء هذا الوحي
وكونها دار الله التي يُعذب بها أعداءه، فهذا معنى قوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٠] وهذه ولاية نصر.
وقد أُطلقت الولاية في القرآن بالنسبة إلى الله (جل وعلا) إطلاقين: أطلق المولى بمعنى الولاية الخاصة، وهي: النصر والتمكين والتوفيق، كقوله هنا: ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ﴾ وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ﴾ [التحريم: الآية ٤] وهذا كثير في القرآن؛ ولذا قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ (١١)﴾ [محمد: الآية ١١] أي: لا مولى لهم ولاية نصر وتمكين. وأطلق المولى صادقاً بالكفار؛ لأنها ولاية خلق وقدرة وربوبية وملك، وهو في قوله: ﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ﴾ [الأنعام: الآية ٦٢] وهي في الكفار؛ لأنه مولى الكفار ولاية ملك وتصرّف ونفوذ وقدرة، ومولى المؤمنين ولاية نصر وتمكين وثواب. فهذا معنى قوله: ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ﴾.
﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (نعم) فعل جامد لإنشاء [المدح] (١). والتحقيق أنه فعل ماض جامد (٢)؛ لأن تاء التأنيث تدخل عليه:
نِعْمتْ جَزَاءُ المتقين الجنَّهْ دارُ الأمَانِي والمُنَى والمنّهْ (٣)
خلافًا لمن زعم أن (نِعْم) اسم. قالوا: لأن أعرابيّاً قيل له: ولدت امرأتك بنتاً. فقال: ما هي بنعم الولد (٤)، فأدخل عليها حرف
_________
(١) في الأصل: «الذم». وهو سبق لسان.
(٢) انظر: شرح شذور الذهب ص٢١، ضياء السالك (١/ ٤٠)، (٣/ ٩١).
(٣) البيت في شرح شذور الذهب ص٢١.
(٤) انظر: ضياء السالك (١/ ص ٤٠)، (٣/ ٩١).


الصفحة التالية
Icon