وقولُه جل وعلا: ﴿أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ الذبحُ معروفٌ، و (بقرةً) قال بعضُ العلماءِ: تَاؤُهُ للتأنيثِ، وذَكَرُهُ يُسَمَّى ثَوْرًا (١). وقال بعضُ العلماءِ: هي تاءُ الوحدةِ، والبقرُ يُطْلَقُ على ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ.
وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ بظاهرِها على أنهم لو ذَبَحُوا أيَّ بقرةٍ لأَجْزَأَتْ، ولكنهم شَدَّدُوا على أنفسِهم فَشَدَّدَ اللَّهُ عليهم.
وقوله جل وعلا: ﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ أي: قال قومُ موسى لموسى لَمَّا قال لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ أي: مَهْزُوءًا منا من قِبَلِكَ بأن نقول لكَ: ادْعُ لنا رَبَّكَ يبين لنا قاتلَ القتيلِ، فَتُجِيبَنَا بقولكَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ فهذا الجوابُ غيرُ مطابقٍ للسؤالِ، فكأنك تستهزئُ منا، وتسخرُ منا، ولم يفهموا أن المرادَ بذبحِ البقرةِ أنه يُضْرَبُ القتيلُ ببعضٍ منها فَيَحْيَا - بإذنِ الله - ويخبرُهم بقاتلِه، فقال نبيُّ اللَّهِ موسى: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ أعتصمُ وأتمنعُ بِرَبِّي أن أكونَ من الجاهلين. الجاهلونَ: جمعُ الجاهلِ، وهو الوصفُ من (جهِل). وأحسنُ تعاريفِ الجهلِ عندَ علماءِ الأصولِ: أنه هو انتفاءُ الْعِلْمِ بما مِنْ شأنِه أن يُقْصَدَ لِيُعْلَمَ، وللعلماءِ فيه أقوالٌ متعددةٌ مَحَلُّ ذِكْرِهَا في فَنِّ الأُصُولِ (٢).
والمعنى: أن نبيَّ اللَّهِ موسى استعاذَ بربه (جل وعلا) من أن يكونَ معدودًا، وفي عدادِ الجاهلين (٣). والآيةُ تدلُّ على أن مَنْ
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٤٥)، الدر المصون (١/ ٤١٧).
(٢) انظر: حاشية البناني (١/ ١٦١)، شرح الكوكب (١/ ٧٧)، الكليات ص٣٥٠، نثر الورود (١/ ٧٤).
(٣) انظر: تفسير السعدي (١/ ٥٣).
يعني: لَعَلَّنِي. ومنه قولُ أَبِي النجمِ (١):

قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ نَعْمَائِهِ أَنَّ تُغَذِّي الْقَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ
(أَنَّّ) يعني: لَعَلَّ.
وعلى هذا القولِ فالمعنَى: وما يشعرُكم، وما يدريكم لَعَلَّهَا إذا جاءت لاَ يؤمنونَ. قالوا: و (لعل) تأتِي بعدَ (ما يدريك) و (ما يشعرك) وَمِنْ إِتْيَانِهَا بعدَ (ما يدريك) ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)﴾ [الشورى: آية ١٧] ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (٦٣)﴾ [الأحزاب: آية ٦٣] ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣)﴾ [عبس: آية ٣] فعلَى هذا الوجهِ الذي اختارَه ابنُ كثيرٍ (٢) وقال به سيبويه (٣) أن معنَى (أَنَّ) هُنَا: (لَعَلَّ). والمعنَى: وما يشعرُكم ماذا يكونُ، لَعَلَّهَا إذا جاءت لا يؤمنونَ. قالوا: ويؤيدُ هذا المعنَى: ما في مصحفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ لأن في مصحفِ أُبَيٍّ «وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا إذا جاءت لا يؤمنونَ» (٤) ومثلُ هذا كالتفسيرِ؛ لأنه ليس بِقُرْآنٍ.
هذه الأوجهُ الثلاثةُ في قولِه: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩)﴾ [الأنعام: آية ١٠٩].
_________
(١) البيت في الكتاب (٣/ ١١٦)، ابن جرير (١٢/ ٤٣)، القرطبي (٧/ ٦٤) الدر المصون (٥/ ١٠٣). وفيها «ادن من لقائه».
(٢) لعل قوله «ابن كثير» سبق لسان. والمراد: (ابن جرير) كما سبق. ويدل عليه أن ابن كثير لم يرجح هذا القول.
(٣) كما في الكتاب (٣/ ١٢٣).
(٤) انظر: الكشاف (٢/ ٣٤)، القرطبي (٧/ ٦٥)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٢)، الدر المصون (٥/ ١٠٣).
من ربنا!! ويقول: ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ: آية ٥٠] فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس.
ويقول: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله﴾ [المائدة: آية ٤٩] والمقاييس لم تكن مما أنزل الله. ويقول: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: الآيات ٤٤، ٤٥، ٤٧] والقياس لم يكن مما أنزل الله، ويأتي بنحوها الآيات من هذا بشيء كثير جدّاً، ويقول: إن القياس لا يفيد إلا الظن، والله يقول: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس: آية ٣٦] وفي الحديث: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» (١). ويقول: إن كل ما لم يأتِ بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه [لأنه عفو] (٢).
ومن ذلك: أن الله حرم أشياء، وأحَلَّ أشْيَاءَ، وَسَكَتَ عَنْ أشْيَاء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها (٣)، وفي حديث: «مَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» (٤). ويقول: إن ما لم يأتِ في كتاب ولا سنة فالبحث
_________
(١) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٧٩) من سورة البقرة.
(٢) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٤٥) من سورة الأنعام.
(٤) الترمذي في اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، حديث رقم (١٧٢٦)، (٤/ ٢٢٠)، وقال: «وفي الباب عن المغيرة، وهذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التميمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف قوله، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظاً... » إلخ. وابن ماجه في الأطعمة، باب أكْلِ الجُبْنِ والسّمن. حديث رقم (٣٣٦٧)، (٢/ ١١١٧)، والبيهقي (١٠/ ١٢)، والحاكم (٤/ ١١٥)، والعقيلي (٢/ ١٧٤)، وهو في صحيح ابن ماجه (٢٧١٥)، وصحيح الترمذي (١٤١٠)، وغاية المرام (٢، ٣)، والمشكاة (٤٢٢٨)، عن سلمان (رضي الله عنه)، وأخرجه الحاكم (٢/ ٣٧٥)، والبزار (كما في كشف الأستار (١/ ٧٩، ٣/ ٥٨) من طريق عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء (رضي الله عنه) مرفوعاً. وقال البزار في الموضع الأول الذي خرَّج فيه هذا الحديث: «إسناده صالح» اهـ وقال في الموضع الآخر: «لا نعلمه يُروى عن النبي ﷺ إلا بهذا الإسناد، وعاصم بن رجاء حدَّث عنه جماعة، وأبوه روى عن أبي الدرداء غير حديث، وإسناده صالح... » اهـ وقال الهيثمي (١/ ١٢١): «إسناده حسن ورجاله موثقون» اهـ وانظر (٧/ ٥٥)، وهدا الإسناد منقطع؛ لأن رجاء لم يلق أبا الدرداء كما نبه عليه الحافظ في التهذيب (٣/ ٢٣٠) والله أعلم. والحديث أخرجه أيضاَ العقيلي (٢/ ١٧٤) عن الحسن مرسلاً. وعقبه قوله: «هذا أولى» اهـ كما أخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعاً، وضعَّف إسناده.
واضحات لا لبس فيها أنها من الله، وأنها حق، وأن هؤلاء الكفرة عاندوا الحق الواضح.
وقال بعض العلماء: مفصلات: بينها فصل؛ لأنه كلما جاءتهم آية وعَذَّبَهُم الله بها وضَجُّوا إلى فرعون، وضَجَّ فرعون إلى موسى، وقال: ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٤] فكشف عنهم الرجز ومكثوا زمنًا في عافية فصار بين الآيات فصل من العافية بين هذه وهذه، وأن ذلك هو معنى قوله: ﴿مُّفَصَّلاَتٍ﴾ أي: متتابعات بين كل اثنتين منها فصل، هكذا قاله بعضهم، وهذا معنى قوله: ﴿وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ﴾.
﴿فَاسْتَكْبَرُواْ﴾ أي: تَكَبَّرُوا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ مَعَ مشاهدة هذا عندما ينزل بهم العذاب يستكينون ويخضعون قهرًا لا رغبة في الخير، فإذا رُفع عنهم أعرضوا إلى ما كانوا عليه، هذا معنى: ﴿فَاسْتَكْبَرُواْ﴾.
﴿وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٣] قدمنا مرارًا (١) أن القوم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: اسم جمع لا واحد له من لفظه، يختص في الوضع في الذكور دون الإناث، وربما دخل فيه الإناث بحكم التبع، والدليل على اختصاصه بالذكور في الوضع قوله تعالى في الحجرات: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ ثم قال: ﴿وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاءٍ﴾ فلو دخل النساء في اسم القوم وضعًا لما قال: ﴿وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاءٍ﴾ [الحجرات: آية ١١] ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى (٢):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام.
﴿حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ يعني: ما بأنفسهم بأن ينتقلوا من خير إلى شر. ودل هذا الجواب على أنه أيضاً بأن ينتقلوا من سيئ إلى أسوأ منه وأفظع كما ذكرنا، وهذا معنى قوله: ﴿حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
﴿وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ عطف على ما قبله بأنه لم يك مغيراً، وبأنه سميع عليم لا يخفى عليه شيء من أقوال المغيرين المستوجِبِينَ لتَغْيِير النعمة، ولا من أفعالهم.
وقد قدمنا مراراً (١) أن مثل هذا هو الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، وأوْضَحْنَاهُ مراراً كثيرة. وهذا معنى قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: الآية ٥٣].
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (٥٤)﴾ [الأنفال: الآية ٥٤] هذا كالتوكيد لما قبله، كرره ليبين بعض ما أجمله هناك، فبين في هذه الآية الأخيرة أن مِنْ كفرهم المذكور في قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ﴾ بَيَّنَ أنَّ مِنْهُ التكذيب بآيات الله، وبين أنه عاقبهم وأغرق منهم آل فرعون.
ومعنى قوله: كدأبهم ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ فرعون: تطلق على كل مَنْ مَلَك مِصْرَ. والمراد بهذه: فرعون موسى.
واختلف العلماء في لفظة (فرعون) هل هو عربي أو أعجمي (٢)؟ فقال بعضهم: أعجمي. وقال بعضهم: هو عربي مُشْتَقّ مِنْ (تَفَرْعَن) الرجل إذا كان ذا دهاء ومكر، فكل من كان ذا دهاء
_________
(١) راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon