وَإِنْ أَتَوْكَ وَقَالُوا إِنَّهَا نَصَفٌ فَإِنَّ أَطْيَبَ نِصْفَيْهَا الَّذِي ذَهَبَا
وقوله: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ فيه سؤالٌ معروفٌ وهو أن (ذلك) إشارةٌ إلى مفردٍ مُذَكَّرٍ، كما قالَ في الخلاصةِ (١):
بِذَا لِمُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ أَشِرْ ............
و (بين) لا تضافُ للمفردِ إلا إذا أُرِيدَتْ أَجْزَاؤُهُ.
والجوابُ (٢): أن ذلك وإن كان لَفْظُهُ مفردًا فمعناه مثنًى؛ لأن الإشارةَ راجعةٌ إلى ما ذُكِرَ من الفارضِ والبِكرِ، أي بينَ ذلك المذكورِ من فارضٍ وبِكْرٍ؛ لأن العوانَ أصغرُ من الفارضِ وأكبرُ من البِكرِ، ونظيرُ هذا من كلامِ العربِ قولُ ابنِ الزِّبَعْرَى كما تَقَدَّمَ (٣):
إِنَّ لِلشَّرِّ وَلِلْخَيْرِ مَدًى وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
أي: وَكِلاَ ذلك المذكورِ من شَرٍّ وخيرٍ؛ لأن (كِلاَ) لا تضافُ إلا لِمُثَنَّى لفظًا أو معنًى، وهذا معنى قولِه: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ الأصلُ (ما تؤمرون به) فحُذِفَ الباء، فَوصل الفعلُ إلى الضميرِ فَحُذِفَ (٤).
وهذا الذي يُؤْمَرُونَ به هو ذبحُ البقرةِ ليضربوا القتيلَ بجزءٍ منها فَيَحْيَا. وهذا معنى قولِه: ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ فزادوا تَعَنُّتًا وسؤالاً وتشديدًا فَشَدَّدَ اللَّهُ عليهم أَيْضًا.
[٣/أ] / قال: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا﴾ [البقرة:
_________
(١) الخلاصة ص١٤. وهذا هو الشطر الأول في البيت.
(٢) انظر: الدر المصون (١/ ٤٢٢)، مغني اللبيب (١/ ١٧٢).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من هذه السورة.
(٤) انظر: الدر المصون (١/ ٤٢٣).
هذا فالمعنَى المانعُ الذي يَمْنَعُهُمْ من الإيمانِ لو جاءتهم الآياتُ المقترحاتُ: أنهم بَادَرُوا بتكذيبِ الرسلِ أولَ مرةٍ عندما جاءهم عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، وبسببِ ذلك الكفرِ والعنادِ قَلَّبْنَا أبصارَهم فَأَزَغْنَاهَا عن الحقِّ، وَقَلَّبْنَا أفئدتَهم فَأَزَغْنَاهَا عن الحقِّ. والدليلُ على هذا: أن المبادرةَ بالعملِ السيءِ سببٌ لطمسِ البصيرةِ والطبعِ والرانِ على القلوبِ، كما بَيَّنَهُ اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ، كقولِه: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: آية ١٠] وكقوله: ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: آية ١٤] وكقولِه جل وعلا: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: آية ٥] فقولُه: ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ فِي مكانِ ﴿زَاغُوا﴾ في هذه الآيةِ، وقولُه: ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ في مكانِ قولِه: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ لأن المعاصيَ والكفرَ - والعياذُ بالله - من سببِ طمسِ القلوبِ، وذلك يقعُ في المؤمنِ، الإنسانُ المؤمنُ إذا أَذْنَبَ - والعياذُ بالله - ذَنْبًا. نُكِتَ في قلبِه نكتةٌ سوداءُ، فإذا كان عَاقِلاً ذَكِيًّا من الذين قال اللَّهُ فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (٢٠١)﴾ [الأعراف: آية ٢٠١] وأنابَ إلى اللَّهِ وتابَ إليه زالَ ذلك السوادُ، وصارَ قلبُه صَقِيلاً؛ لأن القلبَ كالزجاجةِ، ونورُ الإيمانِ الذي يُبْصَرُ
لك نصف الستة -وهي ثلاثة- فخذ الثلاثة من سبعة، فبقي من السبعة أربعة، فقال للأختين: لكما الثلثان من الستة -وهما أربعة- فخذاها من سبعة.
فصار النقص على كل واحد من الوارثين، ولم يُضِع نصّاً من نصوص القرآن. وكان ابن حزم في هذه المسالة يُخطِّيء جميع الصحابة ويقول: إن العباس وعامة الصحابة على غلط، وأن هذا الفعل الذي فعلوا لا يجوز، وأن الحق مع ابن عباس وَحْدَه الذي خالف عامة الصحابة في العَوْل، وقال: الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في شيء واحد نصفاً وثلثين (١). فرأي ابن عباس أن يُنظر في الورثة، إذا كان أحدهما أقْوَى نُقَدِّمُه، ونكمل له نصيبه، ونجعل النقص على الأضعف، فابن عباس في مثل هذا يقول: إن الزوج يُعطى نصفه كاملاً؛ لأن الزوج لا يحجبه الأبوان، ولا يحجبه الأولاد، بخلاف الأختين فهما أضعف سبباً منه؛ لأنهما يحجبهما الأولاد ويحجبهما الأب. قال: وُيعطي للأختين نصفاً، وهذا تلاعب بكتاب الله!! الله يقول: ﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ [النساء: آية ١٧٦] وهو يقول: فلهما النصف. فهذا عمل بما يناقض القرآن. مع أن ابن حزم ورأي ابن عباس تقضي عليه وتبطله المسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبرية، وإنما سُميت بالمنبرية؛ لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه) أفتى بها وهو على المنبر في أثناء خطبته؛ لأنه ابتدأ خطبته على المنبر فقال: الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرُّجعى. فسمع قائلاً يقول: ما تقولون فيمن هلك عن زوجة
_________
(١) أخرجه البيهقي (٦/ ٢٥٣)، وابن حزم في المحلى (٩/ ٢٦٤)، وأورده السيوطي في الدر (٢/ ١٢٧) وعزاه لسعيد بن منصور.
وبعض العلماء يقول: في إيراثهم ديار مصر وأمواله، وديار قومه وأموالهم، فيه إشكال؛ لأنه لم يُعلم في التاريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد أن أنجاهم الله من عذاب فرعون وفلق لهم البحر -والله تعالى أعلم- ولأجل ذلك قال بعض العلماء: أراضي الشام ومشارقها: ما يلي جهة المشرق من أرض الشام من أطرافها، وما يلي جهة المغرب. هذا أقوال العلماء في الآية.
وقوله: ﴿الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أي: أكْثَرْنَا فيها البَرَكَات من كثرة المياه والزروع والثمار ونحو ذلك من بركات الأرض وخيراتها. وهذا معنى قوله: ﴿مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: آية ١٣٧] جماهير العلماء (١) على أن المراد بهذه الكلمة التي صرح الله بأنها تمت على الإسرائيليين أنها هي قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦)﴾ [القصص: الآيتان ٥، ٦] ومعنى تمام الكلمة: أنها أولاً كانت وعدًا، فلما أُنجز هذا الوعد فقد تم ذلك بإنجازه كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى﴾ الحسنى: تأنيث الأحسن، والأحسن: الذي يفوق غيره في الحسن ويفضُله.
وقوله: ﴿عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ تمت عليهم؛ أي: مضت عليهم وكملت عليهم بإنجازها لما كانت وعدًا.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٧٧)، القرطبي (٧/ ٢٧٢)، الأضواء (٢/ ٣٣١).
المضروب قبل أن يروب. معناه: أن ذوق اللسان يفهم ما ضُرب منه قبل أن يروب، وما ضُرِبَ بعد أن راب، ونظيره قول الآخر (١):
وَصَاحِبِ صِدْقٍ لم تردني شَكَاتُه ظَلَمْتُ وَفِي ظَلْمِي لَهُ عَامِداً أَجْرُ
ظلمته: أي: ضربته قبل أن يَرُوبَ، وهذا المعنى المعروف في كلام العرب، ومنه قيل للأرض التي ليست محلاًّ للحفر إذا وقع بها حفر: مَظْلومة، ومنه قول نابغة ذبيان (٢):
إلاَّ الأوَارِيَّ لأْياً ما أُبَيّنُها والنؤي كالحَوْضِ بالمظْلُومَةِ الجَلَدِ
لأن حفر النؤي الذي يحول بين خيمة البدوي وبين السيل وقع في أرض ليست محلاًّ للحَفْرِ، ومنه قيل للتراب المنزوع من القبر: (الظَّلِيم)، أي: مظلوم؛ لأنه محفور في غير محل حفر عادة، ومنه قول الشاعر يصف رجلاً مقبوراً (٣):
فأَصْبَحَ في غَبرَاءَ بعد إِشَاحَةٍ من العَيشِ مردودٍ عليها ظَلِيمُها
هذا معنى الظلم في لغة العرب. وجاء في القرآن معنى الظلم: الظلم بمعنى النقص في موضع واحد، هو قوله: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ﴾ -يعني ولم تنقص- ﴿مِنْهُ شَيْئاً﴾ [الكهف: الآية ٣٣] وهو راجع في المعنى إلى ما ذكرناه.
إذا عرفتم أن الظلم في لغة العرب: هو وضع الشيء في غير محله فاعلموا أن أعظم أنواعه وأشنعها هو وضع العبادة في غير مَنْ خَلَقَ. من خلقه الخالق ورزقه -جل وعلا- فَعَبَدَ غَيْرَهُ فَقَدْ وَضَعَ
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) السابق.


الصفحة التالية
Icon