معانيه؛ إذ إن بعثتَه تدورُ على ذلك، كما أخبرَ (تعالى) عن هذا المعنى بقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: آية ٤٤].
وإنما المقصودُ من إنزالِ القرآنِ فَهْمُهُ والعملُ به، ولم يُنْزَلْ من أجلِ القراءةِ فَحَسْبَ - مع أنها مطلوبةٌ - كما لا يكفي فَهْمُ معانيه من غيرِ العملِ به، ولا يمكنُ العملُ به من غيرِ فَهْمِ مَعَانِيهِ.
وطريقُ فَهْمِ القرآنِ هي تَدَبُّرُ ألفاظِهِ ومعانيه، والتفكرُ فيها، قال الله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرًا﴾ [النساء: آية ٨٢] وقال (تعالى): ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: آية ٢٤] وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ [ص: آية ٢٩].
كما أن فَهْمَهُ يحصلُ بِتَطَلُّبِ تفسيرِه من كلامِ العلماءِ الراسخين في هذا البابِ الشريفِ، الشارحين لآياتِ القرآنِ الكريمِ، وَالْمُبَيِّنِينَ لمدلولاتِها، سواءً كان الأخذُ عنهم مشافهةً، أو عن طريقِ مُصَنَّفَاتِهِمْ.
وإن من العلماءِ الأفذاذِ الذين بَلَغُوا شَأْوًا عظيمًا في علمِ التفسيرِ، العلامةَ الْمُفَسِّرَ الأصوليَّ محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله)، وهو -وإن كان من المتأخرين- إلا أن سماعَ كلامِه في التفسيرِ يُذَكِّرُ سامعَه بالأئمةِ المتقدمين.
ومعلومٌ أن التأخرَ والمعاصرةَ لا يُطَفِّفَانِ حَقَّ العالِم إذا كان مُتَحَقِّقًا في العلمِ. فـ «ليس لقِدَمِ العهد يُفَضَّل القائلُ (١)، ولا لحِدْثَانِ
_________
(١) هكذا ضبطه القرافي وجماعة (القائل) بالقاف، وذهب الزبيدي وجماعة إلى أنه بالفاء (الفائل) من: فال رأيه إذا ضعف. انظر: تاج العروس (١/ ٢٩).
بطنِها في القبورِ وأنتم أمواتٌ، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦)﴾ [المرسلات: الآيتان ٢٥، ٢٦]، الكِفَاتُ هنا: مَحَلُّ الكَفْتِ. والكَفْتُ في اللغةِ: معناه الضَّمُّ (١). أي: محلاًّ يضمُهم أحياء على ظَهْرِهَا، ويضمُهم أمواتًا في بطنِها. وهذا معنَى قولِه: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦)﴾ وَلِذَا قال: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ﴾ التفصيلُ: البيانُ والإيضاحُ وإزالةُ الإجمالِ. والمرادُ بالآياتِ: آياتُ هذا القرآنِ العظيمِ مع ما تَضَمَّنَتْهُ من آياتِه الكونيةِ (جل وعلا)، الدالةِ على كمالِ قُدْرَتِهِ.
وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: قال في الآيةِ الأُولَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ ثم قال: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)﴾ [الأنعام: آية ٩٧]، وهنا قال: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)﴾ [الأنعام: آية ٩٨]، فما الحكمةُ في تلوينِ الكلامِ، والتعبيرِ في الأولِ بـ (قوم يعلمون) وفي الثاني بـ (قوم يفقهون) (٢)؟
قال بعضُ العلماءِ: إنما قال بعدَ ذِكْرِهِ الاهتداءَ بالنجومِ: ﴿قَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ لأَنَّ ذلك أمرٌ يَعْلَمُهُ جُلُّ الناسِ. وقال هنا: ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ لأَنَّ أسرارَ نقلِ الإنسانِ من هذه الأطوارِ وإيجادِه الأولِ لاَ يُدْرِكُ حقائقَها وما انْطَوَتْ عليها من الغرائبِ والعجائبِ إلا الذين يفقهونَ. أي: لهم فِقْهٌ وَفَهْمٌ دقيقٌ في الأمورِ.
_________
(١) انظر المفردات: (مادة: كفت) ٧١٣.
(٢) في الإجابة على هذا السؤال انظر: درة التنزيل وغرة التأويل ص٦٨، البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني ص ٦٥، مِلاَك التأويل (١/ ٤٦٢)، البحر المحيط (٤/ ١٨٨) الدر المصون (٥/ ٦٧).
الاختصار والإيجاز واقعاً موقعه؛ لأن الفاعل معروف، فلو حُذف لما ضر حذفه؛ ولذا قال: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيكَ﴾ أي: أنزله الله إليك. وقد أنزله الله إليه أنجماً، منجماً في حوالي ثلاث وعشرين سنة.
وقوله: ﴿فَلاَ يَكُن في صَدرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ يعني: هذا الكتاب أنزله الله إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فاللام في قوله: ﴿لِتُنذِرَ﴾ - الآتي- يتعلق بقوله: ﴿أُنزِلَ﴾ (١) يعني: أُنزل إليك لأجل أن تُنذر به وأن تُذكر به، فلا تعجز عن ذلك الإنذار، ولا يضق صدرك عنه.
﴿فَلاَ يَكُن في صَدرٍكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ صدر الإنسان معروف، وإذا جاء على الإنسان أمر يثقل عليه أو يشق عليه أورثه ضيقاً في صدره، والنبي ﷺ كان يشق عليه ويضيق بصدره التبليغ من حيث إن الكفار يكذبونه ويقولون له: أنت كذاب، أنت ساحر، أنت شاعر، أنت كاهن، هذه أساطير الأولين عَلَّمَكَها بشر، فتكذيبهم له وأذيتهم له يشق عليه، كما قال الله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧)﴾ [الحجر: آية ٩٧] وقال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيُحْزِنُكَ﴾ [الأنعام: آية ٣٣] وفي القراءة الأخرى: ﴿لَيَحزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ (٢) أي: ﴿فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ أي: ضيق. يعني: أَوْسِع صدرك، وتحمل الأذى، وشُقَّ الطريق في تبليغ هذا القرآن العظيم، والإنذار به، والتذكير به، لا تضعف، ولا تجبن، ولا تخف من الأذى، ولا يضق صدرك به.
والحرج في كلام العرب أصله: الضيق (٣)، وقد يُسمون الشجر
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٤٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٣) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: المفردات (مادة: حرج) ص ٢٢٦، اللسان (مادة: حرج) (١/ ٥٩٩).
الآيتان ٩٢، ٩٣] ويوشك أن يسألكم الله عن ماذا كنتم تقولون فيما مدح به نفسه من صفات الكمال، كاستوائه على عرشه، وكصفة اليد والأصابع، وغير ذلك من الصفات التي أثنى الله بها على نفسه، وكالتي في قوله هنا: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾ [الأعراف: آية ٩٩] فإذا قال لكم رب العالمين: ماذا كان موقفكم في دار الدنيا من صفاتي التي مدحت بها نفسي، وأثْنَى عَلَيَّ بِهَا رَسُولي صلى الله عليه وسلم، وبلَّغكم إياها عَنِّي في كتابي وسنة رسولي، هل كنتم تصدقونني، وتؤمنون بي، أو كنتم تنفون صفاتي وتكذبونني وتكذّبون رسولي؟! فلا يخفى على أحد منكم -على طريق الإنصاف- أنه إن كان جوابه لربه في هذا التعليم الذي علمناكم في نور القرآن أنه تعليمٌ صاحبهُ ناج من هذه المشكلات، ولا تأتيه بليّة، بل إنك إن قلت لله: أما أنا فكنت في دار الدنيا أُنَزِّهُ صِفَاتك عن صفات المخلوقين، وأعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جازمًا أنَّكَ لا يُمَاثِلُك ولا يشابهك شيء من خلقك، لا في ذاتك، ولا في صفاتك، ولا في أفعالك.
فهذا الجواب لا شك أنه لا يُسَبِّبُ لك بَلِيَّة، ولا مشكلة من الله ولا لومًا، ولا تقريعًا، ووالله لا يقول لك الله موبخًا: لم كنت تُنَزِّهني عن مشابهة صفات خلقي؟ لا، لا والله.
ثم إنك إذا قلت: أنا كنت أؤمن بصفاتك، وأصدقك بما تمدح به نفسك، وأُصدق رسولك، ولا أكذبك فيما كان يثني به عليك من الصفات، ولكن ذلك الإيمان والتصديق مبني على أساس تنزيهك وتعظيمك وإجلالك عن مشابهة صفات الخلق. والله لا يقول لك الله: لم كنت تصدقني في دار الدنيا، وتصدق رسلي، ولم لا تكذبني وتنفي صفاتي؟ لا، لا. هذا طريق سلامة محقق لا شك فيه.
و ﴿مِّن شَيْءٍ﴾ بيان للموصول، من شيء كائناً ما كان، إلا ما سنذكره مما أخرجه دليل مُخصِّص.
﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ قراءة جماهير القراء، منهم السبعة: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ وفي بعض الروايات الضعيفة عن بعض السبعة: ﴿فإن لله خمسه﴾ وقد رواه الجعفي عن أبي عمرو (١)، أما الرواية التي عليها جمهور القراء، وهي رواية السبعة الصحيحة عنهم: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ وهنا محذوف دل عليه المقام: فحقه أن لله خمسه، أو: فواجب حتم أن لله خمسه. والخُمس معروف، ﴿وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهذه الآية الكريمة من سورة الأنفال قد تضمنت أحكاماً كثيرة من أحكام الجهاد، ومن أحكام الغنائم (٢)، وقد يحتاج لها المسلمون؛ لأنا نرجو الله (جل وعلا) أن يرفع علم الجهاد، ويقوي كلمة لا إله إلا الله، وأن تخفق رايات المسلمين في أقطار الدنيا، فيحتاجون إلى تعلم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أحكام الجهاد، ولما كان القرآن العظيم هو مصدر جميع العلوم؛ لأنه الكتاب الذي حوى جميع العلوم، وكانت أصول جميع الأشياء كلها فيه، أردنا هنا أن نبين جُملاً من الأحكام التي أشارت إليها هذه الآية الكريمة، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم﴾ معناه: الذي غنمتم، وهي الغنائم التي يحُوزها المسلمون من أموال الكفار إذا انتصروا عليهم فقهروهم، وأموال الكفار على قسمين (٣):
قسم: ينتزعه المسلمون منهم بالقوة والغلبة.
_________
(١) انظر: البحر (٤/ ٤٩٩).
(٢) انظر: هذه التفاصيل في الأضواء (٢/ ٣٥١).
(٣) السابق (٢/ ٣٥٢).


الصفحة التالية
Icon