فالسؤالُ الأولُ عن سِنِّهَا، وهل هي كبيرةٌ، أو صغيرةٌ، أو متوسطةٌ؟
والسؤالُ الثاني عن لَوْنِهَا، وقد تَقَدَّمَ الجوابُ فيهما.
والسؤالُ الثالثُ عن صِفَتِهَا، هل هي مُذَلَّلَةٌ مُرَوَّضَةٌ عَامِلَةٌ، أو هي صعبةٌ غَيْرُ مُرَوَّضَةٍ؟ وهل فيها لونٌ يُخَالِفُ لونَ جِلْدِهَا الآخر؟ ولذا أجابَه بما يأتي:
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ يَعْنُونَ [أن] هذه الأوصافَ كثيرةٌ في البقرِ، فَيَكْثُرُ في البقرِ: الصفرةُ، والفقوعُ، والتوسطُ في السِّنِّ، فلم تتميز لنا هذه البقرةُ من غيرِها من البقرِ للاشتراكِ في الصفاتِ.
وأفردَ الضميرَ في ﴿تَشَابَهَ﴾ وذلك يَدُلُّ على أن أسماءَ الأجناسِ يجوزُ تذكيرُها وتأنيثُها (١). وقراءةُ الجمهورِ هنا ﴿تَشَابَهَ﴾ هو. أي: البقرُ، بصيغةِ الماضي. وتذكيرُ الضميرِ لأن (البقرَ) جنسٌ يجوزُ تذكيرُها وتأنيثُها. وفي بعضِ القراءاتِ: ﴿تَشَّابَهُ علينا﴾ وَأَصْلُهُ: تتشابه هي، أي: البقرُ، وَأَدْغَمَ التاءَ في التاءِ، وهذه قراءةٌ شاذةٌ (٢). و (البقرُ) يجوزُ تذكيرُه وتأنيثُه، وهو اسمُ جنسٍ يقال فيه: باقر، وبيقور، وفيه لغاتٌ غيرُ ذلك (٣). ومِن إطلاقِه على (البيقور) قولُ الشاعرِ (٤):
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٤٢٦).
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٤٥١)، البحر المحيط (١/ ٢٥٣).
(٣) انظر: الحيوان للجاحظ (٤/ ٤٦٨)، القرطبي (١/ ٤٤٥، ٤٥١).
(٤) البيت للورل الطائي، انظر: الحيوان للجاحظ (٤/ ٤٦٨)، اللسان (مادة: بقر) (١/ ٢٤٢).
جاوزَ الحدودَ التي يبلغُها الماءُ العادي. وطغيانُ الإنسانِ: مجاوزتُه الحدودَ. ومجاوزتُهم الحدودَ ككفرِهم بِرَبِّهِمْ، وَجَعْلِهِمْ له الشركاءَ والأولادَ.
وقولُه: ﴿يَعْمَهُونَ (٤)﴾ المضارعُ جُمْلَتُهُ حاليةٌ (١)، ومعلومٌ أن جملةَ المضارعِ لا تقترنُ بالواوِ، وأن الرابطَ فيها ضميرٌ، هذا معروفٌ (٢).
والْعَمَهُ في لغةِ العربِ (٣): هو عَمَى القلبِ خاصةً، الْعَمَى: - مقصورٌ بالأَلِفِ - يُطْلَقُ على عَمَى البصرِ، وعلى عَمَى البصيرةِ، كما يأتي في قولِه: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)﴾ [الحج: آية ٤٦] أما العَمَهُ - بالهاءِ - فلا يُطْلَقُ إلا على عَمَى البصيرةِ خاصةً، وَمَنْ عَمِيَتْ بصيرتُه لم يَرَ حَقًّا من باطلٍ، ولم يُمَيِّزْ حَسَنًا من قبيحٍ، ولا نَافِعًا من ضَارٍّ والعياذُ بالله جل وعلا.
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)﴾ [الأنعام: آية ١١١] قد اقْتَرَحُوا على النبيِّ - ﷺ - أن يُنْزِلَ عليهم الملائكةَ، كما بَيَّنَهُ تعالى في قولِه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ﴾ [الفرقان: آية ٢١] وكقولِه عنهم: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)﴾ [الإسراء: آية ٩٢] ﴿لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: آية ٨] هذه الآياتُ الدالةُ على اقتراحِهم إتيانَه بالملائكةِ، وقد اقترحوا عليه أن يُحْيِيَ لهم آباءَهم الذين مَاتُوا [لِيَسْأَلُوهُمْ
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ١١٢).
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (١/ ٤٨٨).
(٣) انظر: القاموس (مادة: العمه) ص ١٦١٣، الكليات ص٦٥٢.
عمن عمل مثقال جبل أُحد، فلا نقول: نصّ على الذّرة، وما فوق الذرة -وهو أثقل منها- لا يؤخذ من الآية، فهي ساكتة عنه. بل نقول: إن الآية غير ساكتة عنه، وإن ذلك المسكوت يُلحق بهذا المنطوق. وكذلك قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: آية ؟] لو جاء بأربعة عدول فلا نقول: أربعة عدول مسكوت عنها. بل نقول: إن الآية التي نصّت على قبول شهادة العَدْلَيْنِ دَالّة على قبول شهادة أربعة عدول. ونقول: إن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً﴾ [النساء: آية ١٠] لا نقول كما يقول ابن حزم: إنها ساكتة عن إحراق مال اليتيم وإغراقه؛ لأنها نَصَّتْ عَلَى حُرْمَةِ أكْلِهِ فَقَطْ.
بل نقول: إن الآية التي نهَتْ عَنْ أَكْلِهِ دلت على حرمة إِغْرَاقِهِ وإحراقِهِ بِالنَّارِ؛ لأن الجميع إتلاف.
ومما يدل على أن ما يقوله ابن حزم لا يقول به عاقل: أن ما ورد عن النبي ﷺ من النهي عن البول في الماء الراكد (١) يقول ابن حزم: لو بال في قارورة وصبها في الماء لم يكن هذا من المكروه؛ لأن النبي ﷺ لم يَنْهَ عن هذا، وإنما قال: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ». ولم يقل: لا يبولن أحدكم في إناء ثم يصبه في الماء الراكد. فهذا لا يعقل!! أيعقل أحد أن الشرع الكريم ينهى عن أن يبول إنسان بقطرات قليلة أقل من ربع وزن الكِيْل ثم إنه يجوز له أن يملأ عشرات التنكات من البول بعدد مئات الكيلوات ثم يصبها في الماء؟ وأن هذا جائز (٢)!! [وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْضِينَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان»، لأن الغضب من
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
(٢) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
وعند ذلك أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب البحر بعصاه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم. يعني صار البحر كأنه جبال عظام بينها طرق، وأرسل الله عليها الريح -كما يقول المفسرون- فيبست كما أشار له تعالى بقوله: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ [طه: آية ٧٧] يزعم المفسرون أنه كانت في البحر اثنتى عشرة طريقًا، وأن الأمواج ممسكة بين الطرق بقدرة الله وإرادته كأنها الجبال الشامخة، كما قال تعالى: ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: آية ٦٣] أي: كالجبل الشامخ المنيف، ويزعم المفسرون أن الله جعل بينها فُرجًا كالكّوة التي تكون في البيوت حتى صار ينظر بعضهم إلى بعض (١)، وأنهم سلكوا في تلك الطرق قاطعين للبحر، وأن فرعون لما وجدهم دخلوا البحر يزعمون أنه كان على جواد ذكر من الخيل، وأن جبريل جاء أمامه على فرس وديق -وهي التي تحب الفحل، وإذا كانت تحب الفحل كان يُشم فيها ريح ذلك- وأن الجواد شم فيها ريح ذلك واقتحم، فاقتحموا في البحر مع تلك الطرق (٢)، ولما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل أراد أن يضرب البحر بعصاه ليلتئم، فقيل له: ﴿وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾ [الدخان: آية ٢٤] أي: خَلِّه ساكنًا منفلقًا. ليدخل فرعون وقومه فيغرقوا؛ لأنه لو التطم لرجع إلى حالته ولرجعوا، فلما تكامل خروج بني إسرائيل ومجاوزتهم البحر، وتكامل دخول القبط -فرعون وقومه- أطبق الله عليهم البحر، وتلاطمت أمواجه، فلم يبق منهم داع ولا مجيب، كما أوضحناه سابقًا في
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ٢٧١).
(٢) انظر: ابن جرير (١٥/ ١٩٥).
الدواب: جمع دابة، وقد جرت العادة في القرآن أن الآدميين لا يعبر عنهم بالدواب، لكنه هنا عبر عن هؤلاء الكفرة باسم الدواب، ليشير إلى أنهم كالأنعام بل هم أضل، كما قال: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان: الآية ٤٤] والدواب: جمع دابة. وأصل الدابة وزنه (فَاعِلَةٍ) (داببَة) جاء فيه الإدغام. وجمع (الفَاعِلَة) مطلقاً على (فَوَاعِل) جمع تكسير مقيس بقياس مطرد كما هو معروف في محله (١). أي: إن شر جميع ما يدب على وجه الأرض من الدواب هم الكفار؛ لأنهم شر كل ما يدب على وجه الأرض، فقوله هنا: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾ هي صيغة تفضيل، أصله: إن أشر الدواب، أي: أكثرها وأعظمها نصيباً في الشر الذين كفروا. إلا أن (خيراً) و (شرّاً) لكثرة الاستعمال فيهما حذفت العرب منهما همزة أفعل التفضيل، وهما صيغتا تفضيل، فقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ﴾ أي: أكثر الدواب التي تدب على وجه الأرض شرّاً وأعظمها نصيباً في الشر -وهو ضد الخير- ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كبني قريظة ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ لأن الكفر متغلغل في أعماقهم لا يقلعون عنه، وهم أشقياء قد سبق في علم اللَّه أنهم لا يؤمنون. ثم زادهم بياناً وإيضاحاً بقوله: ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٥٦] فـ ﴿الَّذِينَ﴾ بدل من ﴿الَّذِينَ﴾ قبله. قال بعض العلماء: قوله: ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ﴾ إنما جيء بـ (من) لأنه مضمن معنى: أخذت منهم العهود. قال بعض العلماء: (من) تبعيضية؛ لأنهم وإن كانوا كفرة كلهم فهم كلهم شر الدواب، إلا أن العهد إنما يعقد مع رؤسائهم الذين لهم العقد والحل، وبذلك الاعتبار دخلت (من) التبعيضية.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon