نَفْسًا) أي: شخصًا ذَكَرًا كان أو أنثى، والظاهرُ أن هذا القتيلَ ذَكَرٌ، بدليلِ تذكيرِ الضميرِ العائدِ عليه في قوله: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة: الآية ٧٣] أي: القتيل الذي فيه النزاعُ (١).
وهنا سؤالٌ، وهو أن يقالَ: ما المسوغُ لإسنادِ قَتْلِ هذا القتيلِ إلى جميعِهم في قولِه: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ﴾؟
الجوابُ (٢): أن القرآنَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ومن أساليبِ اللغةِ العربيةِ إسنادُ الأمرِ إلى جميعِ القبيلةِ إذا فَعَلَهُ واحدٌ منها. ونظيرُه في القرآنِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ (٣): ﴿وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: آية ١٩١]؛ لأنه ليس من المعقولِ أَمْرُ مَنْ قُتِلَ بالفعلِ أن يقتلَ قاتلَه، ولكن: فإن قتلوا بعضَكم فليقتلهم البعضُ الآخَرُ. فأسندَ الفعلَ إلى الجميعِ وهو واقعٌ من البعضِ. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في لغةِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (٤):

فَإِنْ تَقْتُلُونَا عِنْدَ (٥) حَرَّةِ وَاقِمٍ فَلَسْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ أَوَّلَ مَنْ قُتِلْ
يعني: تَقْتُلُوا بَعْضَنَا.
وقولُه: أصلُه: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ أصلُه: فَتَدَارَأْتُمْ فِيهَا. وهو (تَفَاعُل)
_________
(١) انظر: الأضواء (١/ ٢٤، ٧٩).
(٢) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٥٩)، الدر المصون (١/ ٤٣٤) وانظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (٣٣) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٤٤.
(٤) المحتسب (٢/ ١٢٨).
(٥) في المحتسب: (يوم).
وكقولِه: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ أي: هم الأعداءُ فَاحْذَرْهُمْ. وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أن المقررَ في علومِ العربيةِ: أن المفردَ إذا كان اسمَ جنسٍ جازَ إطلاقُه مفردَ اللفظِ مُرَادًا به الجمعُ إذا دَلَّتْ على ذلك قَرَائِنُ (١). وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ في الحالاتِ الثلاثِ، أعنِي بقولِي «في الحالاتِ الثلاثِ»: أن يكونَ مُنَكَّرًا، وأن يكونَ معرَّفًا بالألفِ واللامِ، وأن يكونَ مُضَافًا. فمثالُ إطلاقِ الجنسِ مُفْرَدًا مرادًا به الجمعُ مُنَكَّرًا في القرآنِ قولُه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)﴾ [القمر: آية ٥٤] يعني: وَأَنْهَارٍ، بدليلِ قولِه: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ [محمد: آية ١٥] وقوله: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [الحج: آية ٥] يعني أطفالاً. وقولُه: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: آية ٧٤] أي: أئمةً. وقوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا﴾ ﴿النساء: آية ٤] أي: أَنْفُسًا. وقولُه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: آية ٦] أي: وإن كنتم جنبين أو أجنابًا فَاطَّهَّروا. وقولُه جل وعلا: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)﴾ [المؤمنون: آية ٦٧] أي: سَامِرِينَ. وهو كثيرٌ في القرآنِ.
ومن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ معرَّفٌ بالألفِ واللامِ قولُه جل وعلا: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾ [الفرقان: آية ٧٥] يعني: الغُرفَ. بدليلِ قولِه: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ﴾ [الزمر: آية ٢٠] ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: آية ٣٧] وقوله: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا﴾ [النور: آية ٣١] يعني: الأطفال ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾ [القمر: آية ٤٥] أي: الأَدْبَارَ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
سرق كما سرق ذلك!! وهذا قياس شَبَهٍ باطل. وهذا النوع من القياس كقياسات إبليس الباطلة؛ والكفار - لعنهم الله - كذبوا جميع الرسل بقياسات شَبَهٍ باطلة؛ لأنه ما جاء رسول إلى قوم إلا قالوا له: أنت بشر، وكونك بشر يجعلك تشبه سائر البشر، ولا نقبل أن تكون رسولاً من رب العالمين وأنت تأكل كما نأكل، وتشرب مما نشرب، وتمشي في الأسواق كما نمشي فيها!! ونص الله على أن هذا مَنَعَ كل أمة، قال: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَّسُولاً (٩٤)﴾ [الإسراء: آية ٩٤] فشبهوا البشر بالبشر قياس شبه، واستنتجوا من ذلك أنه لا تكون له أفضلية على البشر، والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - ردوا عليهم هذا القياس، ورده الله عليهم في آيات لما قالوا للرسل: ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ [إبراهيم: آية ١٠] أجابهم الرسل قالوا: ﴿إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [إبراهيم: آية ١١] فمشابهتنا في البشرية لا تستلزم [عدم] (١)
تفاوتنا في فضل الله، كما قال جل وعلا: ﴿فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: آية ٦] ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (٣٤)﴾ [المؤمنون: آية ٣٤] وقالوا فيه: ﴿يَأكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ [المؤمنون: آية ٣٣] ﴿أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: آية ٢٤] وهذا كثير في القرآن، وهذه الأقيسة الفاسدة.
والحاصل أن القياس منه صحيح ومنه فاسد، فالصحيح هو الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون وعامة المسلمين. وأحكام الصحابة في القياس لا يكاد أحد يحصيها، فقد جاء في صحيح
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق..
كَامِلَةٌ} [البقرة: آية ١٩٦] وبعضهم يقول (١): نصّ على الأربعين لئلا يتوهم مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الثلاثين تُمِّمَتْ بِعَشْرٍ من الثلاثين، بل بين أنها تُممت بشيء زائد على الثلاثين، وهذا معنى قوله: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً﴾ ليصومها ويتعبد فيها فيناجيه الله وينزل عليه الكتاب المعروف التوراة ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ للسبب الذي ذكرنا ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: آية ١٤٢] يقولون: إن انتهاءها عاشر ذي الحجة، وأن الله أنزل عليه التوراة في عشر ذي الحجة.
قال بعض العلماء (٢): هذه الآية الكريمة يؤخذ منها بعض الأحكام: وهي أن ضرب التأجيل وتحديد المُدة للميعاد ونحوه أنه أمر معروف قديم، فيدل على ضرب الأجل، والتحديد بثلاثين أو أربعين لموعد ونحو ذلك كدين أو غيره مما يحتاج إلى الآجال.
وقال جماعة من العلماء (٣): هذه الآية من سورة الأعراف دَلَّت على أن التاريخ بالليالي لا بالأيام، وذلك هو المقرر في فَنِّ العربية كما دلت عليه هذه الآية أن التاريخ بالليالي لا بالأيام، فتقول: وقع هذا لكذا وكذا ليلة. ولا تقول: لكذا يومًا. فالتاريخ بالليالي؛ لأن الليالي أوائل الشهور وهي سابقة للأيام، فالتاريخ بها لا بالأيام، وهذه الآية نص صريح في ذلك؛ لأن الله قال: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً﴾ ولم يقل: ثلاثين يومًا. وقال: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ حذف منها التاء ولم يقل: «بعشرة»؛ لأن الليالي مؤنَّثَة، ولو أراد الأيام لقال: «بعشرة». بالتاء كما هو معروف في محله، وهذا معنى
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٧٥).
(٢) انظر: المصدر السابق (٧/ ٢٧٥).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
أما إذا تُيقن نقض العدو للعهد بأن قتلوا المسلمين، وفعلوا الأفاعيل، وصرحوا بنقض العهد علناً فهؤلاء لا حاجة لإعلامهم؛ لأنَّ أَمْرهم واضح، وهم لا يشكون في نقضهم العهد؛ ولأجل ذلك لما عقد النبي ﷺ مَعَ كفار قريش صلح الحديبية في ذي القعدة من عام ست من الهجرة عقده بينه وبينهم على يَدِ سُهَيْل بن عمرو العامري -رضي الله عنه وكان في ذلك الوقت كافراً- وانعقد هذا الصلح، ودخل خزَاعَة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأعداؤهم من البَكْريين في عهد قريش، وكان صلح الحديبية وقع على المهادنة تسع سنين، فَغَدَرت قريش غدرًا علناً، وأعانوا البكريين على خُزَاعة فقتلوهم، لما كان هذا الغدر علناً ظاهراً لا إشكال فيه ولا لبس فيه لم ينبذ إليهم رَسُول الله على سواء، بل غزا قريشاً غزوة الفتح، وأهل الأخبار والسير يقولون: إنه قال: «اللَّهُمَّ خُذِ الأَخْبَارَ وَالْعُيُونَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي دِيَارِهَا» (١)، وما دروا إلا والمسلمون بِمَرِّ الظّهْران كل رجل يوقد نارًا؛ لأن نقضهم للعَهْدِ هُنَا لا يَتَنَاوله ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ لأنهم خانوا بالفعل وقتلوا الخزاعيين قتلاً ذَرِيعاً، كَمَا قال صاحبهم الذي اسْتَنْجَدَ لهم رَسُول الله ﷺ وهو عمرو بن سالم الخزاعي (رضي الله عنه)؛ لأن قريشاً لما نقضوا العَهْدَ وقتلوا خزاعة مع البكريين أرسل الخزاعيون عمرو بن سالم (رضي الله عنه) فجاء إلى النبي ﷺ في المدينة -هذه حرسها الله- قام عمرو بن سالم الخزاعي وذكر رجزه المشهور الذي يصرح فيه بأنهم قَتَلُوهم، وأن نقضهم للعهد كالشمس لا شك فيه حيث قال
_________
(١) السيرة لابن هشام ص١٢٣٨ من طريق ابن إسحاق، وكذا أورده ابن كثير في تاريخه (٤/ ٢٨٣).


الصفحة التالية
Icon